آخر تحديث: 29 / 3 / 2024م - 4:57 ص

من أنبائهم نعتبر

قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ.. «يوسف الآية 111».

التقليب في صفحات تاريخ الأمم الماضية وما كانوا عليه من أحوال عقائدية وأخلاقية واجتماعية، يا ترى: ما الذي يمكن أن يضيفه لنا كرصيد معرفي وسلوكي حتى نقضي وقتا في تأمله وتدبره، أم أنه يعد ترفا فكريا لا فائدة ترجى منه بعد أن طويت صفحة أعمارهم وذهبوا إلى سبيلهم؟

النظر في أحوال الماضية مما لا شك فيه أنه يضفي خبرة وحنكة للإنسان من خلال العيش وكأنه بين ظهرانيهم ويتحول إلى فرد منهم ويتصور كيف سيكون عليه حاله، فالأمم السابقة في أفعالها وتصرفاتها لن تخرج عن نطاق أي زمان، وذلك أن الإنسان إما يخضع في مسيره لحكم العقل الواعي، والذي يقوده إلى الاتزان العقلي والسلوكي والتكامل في جوانب شخصيته، وإما أن يخضع لهواه وشهواته المتفلتة ويرمي بعقله جانبا ويسيرا مكبلا بأغلال النزوات، فيسقط في هاوية الانحلال الأخلاقي بمختلف أشكاله، فهذا القرآن الكريم يحكي لنا جانبا من حياة تلك الأمم والأفكار العقائدية المنحرفة التي انساقوا خلفها فعبدوا الأصنام والنار والكواكب، والرذائل والفواحش والمنكرات التي فعلوها فاستحقوا بسببها العقوبة الإلهية في الدنيا قبل الآخرة.

ودراسة أحوال الماضين إنما هو انفتاح على تجارب الآخرين ومعرفة مواطن الأخطاء الواقعين فيها، فإن العاقل من اعتبر بغيره أي قرأ قراءة المتأمل ما جرى من أحوالهم ليتلافى أن يكون مثلهم من المستحقين للعقوبات الإلهية، فالشيطان الرجيم يبحث عن نقاط الضعف عند الإنسان ويتسلل من خلالها ليزين له الشهوات ويدفعه نحو الانزلاق إلى المساويء ومقارفتها، وتهذيب النفس من الطرق النافعة معه النظر في تجارب الآخرين وكأنه يحيا معهم، فيستلهم الدروس والعبر ويحلل النقاط الإيجابية والسلبية عندهم، فيضيف إلى مكتسباته ما عرفه من فعالهم ومواقفهم الصالحة، ويتجنب ما كانوا عليه من فعال سيئة قادتهم إليها نفوسهم الأمارة بالسوء، وهذا يعني تنمية الضمير اليقظ ومحاسبة النفس والنظر في العواقب والنتائج المترتبة عليها، فضعيف العقل من يرى من أمامه قد سقط في حفرة فيسير على خطاه حتى يسقط فيها هو الآخر، وهنا تكمن أهمية الخلاصة والفائدة من دراسة أحوال الماضين والتعرف على أسباب سقوطهم في هاوية الانحراف، فيضيف إلى زاده المعرفي والسلوكي خبرة من خلال التمعن في تجربة الآخر، فهذه البسيطة التي نسير عليها قد خط عليها ممشى كثير من الناس في الزمن القديم ولن نختلف عنهم أبدا، فمن أغلق مسامع عقله عن استماع النصيحة والاستماع لصوت الأنبياء والصالحين قد أردى نفسه في المهالك، ومن عاشوا حياة الترف والسخرية على الآخرين قد سقطوا في أعمال أيديهم، ومن انساق خلف المال وحياة المترفين لن يكون مصيره في كل الأحوال يختلف عن قارون الذي امتلك خزائن الذهب ففارق هذه الدنيا بعد أن أخذه الباري أخذ عزيز مقتدر، والنفس الأمارة بالسوء لهم قارفت الفواحش بتنوع أشكالها ولم يستمعوا لصوت الحق والفضيلة، وهكذا يكون حال كل واحد من البشر على امتداد الزمن إن سار خلف شهواته بلا رادع، وإن قلبت صفحات التاريخ من أول الخليقة فستجده مليا بمن استجاب لصوت الشيطان والشهوات وفي النهاية رحل من الدنيا غير محمود السيرة.

وصيانة النفس من الوقوع في أسر الشهوات يحتاج إلى دراسة واقعية وتأملية، فالسنن الإلهية الجارية في العباد لا تتغير وعلى المرء الحفاظ على نفسه ووقايتها من الآفات الأخلاقية، فهذه آثار الماضين وبقايا مدنهم وأماكن تواجدهم تحكي عن أسباب القوة والاقتدار التي امتلكوها والرفاهية التي كانوا عليها، ولكنهم لما استكبروا وتبطروا على النعمة جاءهم من جنود الرحمن ما لا يعلمون، وطغيان النفس واعتقاد القوة الباطشة في نفسه قد تحطمت على جنبات النقمة الإلهية.

وإصلاح أنفسنا له سبل متعددة ومنها النظر في آثار وأحوال الأمم السابقة، فما يدرأ الكذب والخداع والتكبر عن أنفسنا هو رؤية عقولنا لما حل بمن استكبر من الماضين وقد حوتهم حفر القبور بعد ردح من الزمن، والعاقل هو من اعتبر واستقام بعد أن رأى ما حل بغيره بعد أن سار خلف الشهوات كالأعمى.