عن عجز مشروع النهضة العربية
خلافاً للمشاريع القومية الأوروبية، ارتبط مشروع النهضة العربية، بالنضال من أجل تحقيق الاستقلال عن الحكم العثماني. وجاءت نشأته في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، رداً على محاولات تغييب الهوية العربية، ولم يحمل برنامج عمل سياسي، وغلبت الانفعالية على شعاراته، وغدت محكومة بقانون الفعل ورد الفعل، وليس بالإبداع والمبادرة.
إن مقاربة المشروعين: الأوروبي والعربي، تشي بأن الأول، وجد حاضنة اجتماعية قادرة على النهوض به. وكان لنتائج الحرب العالمية الثانية، دور كبير في ارتقائه من مشروع أمم أوروبية، إلى شراكة في السوق، ثم إلى مواطنة مشتركة واتحاد أوروبي. حلّق هذا المشروع بجناحين، هما مشروع مارشال، الذي أسس قاعدة الانطلاق الاقتصادية، وحلف الناتو، الذي تحول إلى مؤسسة دفاع مشتركة. وضع الجناحان، لبنات التأسيس، لمشروع الوحدة الأوروبية، بينما لم تسعف نتائج الحربين الكونيتين، الحلم العربي في الاستقلال وتحقيق الوحدة، بل باتت عناصر طاردة لهذا المشروع.
في غمرة الصراع مع الاحتلال الأجنبي، تبلورت الهوية العربية، في إطار تاريخي وموضوعي ارتبط بسيرورة تفكك النظام الاستعماري، بالاتفاق أو عن طريق القوة، وصعود نجم حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث. وكانت تلك من أبرز تحولات القرن العشرين.
كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الشارع العربي، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مفعماً بالأماني بقيام أمة عربية واحدة. وكان الأساس النظري لذلك، قد استمد مشروعيته من الإيمان بأن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي، إلى المحيط الأطلسي، قد جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي. وأنها بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، فإن قدرها الانضواء في دولة عربية موحدة، قادرة على تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
إن تحقيق تنمية اقتصادية عربية، بما تتطلبه من رؤوس أموال كبيرة، وقدرات بشرية هائلة، ومواد خام وأسواق واسعة، لا يمكن أن يضطلع بها قطر عربي بمفرده، بل من خلال تكامل اقتصادي عربي، بين مجموعات تتقارب، في أسس نظمها السياسية والاجتماعية. وتصبح قادرة من خلال التنسيق والتكامل بينها، على إحداث تغييرات أساسية وجذرية في البنى الاقتصادية.
لقد أكد العرب حضورهم الإنساني، بعد مجيء الإسلام، ونشوء الدولة العربية التي ارتبطت به. إن هذا الإنجاز لا يمسّ في جوانبه الإيجابية جزءاً من العرب، بل هو إنجاز لكل العرب، لأنهم وجدوا أنفسهم أمة واحدة من خلال هذه الحادثة، ومن خلالها أيضاً تمكنوا من نشر رسالتهم الحضارية في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. ولذلك فإنهم إذا ما أرادوا تحقيق تواصلهم الحضاري، فإن عليهم أن يستلهموا من ذلك الإرث محفزات في انطلاقتهم الجديدة.
قيل في أسباب عجز المشروع النهضوي العربي، إنه رومانسي، يستند على الذاكرة التاريخية. وقيل في المقابل، إن الأمم هي نتاج صيرورة تاريخية، وإن المشكلة تكمن في قوة رسوخ الكيانات المحلية. وللأسف لم يخرج الجدل حول عجز مشروع النهضة، في الغالب عن المماحكات اللفظية. لقد أصبح واضحاً أنه ليس يكفي الحديث عن هجمة خارجية على المشروع، وهي صحيحة إلى حد كبير، فتلك من بديهيات المواجهة. كما أنه من غير المفيد كثيراً الاعتراف بضعف التشكيلات الاجتماعية العربية، بما يفرض استتباعاً قدرياً لتلك التشكيلات، وعلاقتها بالخارج. فذلك مهما بلغ في دقة شروحه، لا ينقل الفكر إلى دائرة الفعل.
صحيح أن عناصر تكوين الأمم الحديثة، متوافرة في واقعنا العربي. فنحن في الغالب نتكلم لغة واحدة، ويربطنا تاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، ويجمعنا أن منطقتنا هي منطلق الأديان السماوية الثلاثة، وأن غالبيتنا تعتنق الإسلام ديناً، وتجد فيه مصدراً رئيسياً للتشريع والثقافة. لكن العلاقة الرومانسية، والروابط الوجدانية، لا تحتم قيام الدولة العربية الواحدة، ولا تسهم في التسليم بيقينياتها.
فالدول الأوروبية، لم تكن بحاجة إلى كل هذه العناصر، لتستكمل وحدتها. لقد كان المحرض على الوحدة الأوروبية بزوغ قوى اجتماعية جديدة، وجدت من مصلحتها كسر الحواجز الجمركية والانطلاق إلى اقتصادات الأبعاد الكبيرة. ولم يعد هناك مفر سوى قيام دول حديثة على أسس تعاقدية، تم فيها الفصل بشكل واضح بين ما للكنيسة وما لقيصر.
هناك حاجة ماسة لإعادة قراءة مشاريع النهضة، بما يتسق مع التحولات الكونية، في مجالات السياسة والاقتصاد والعلوم والمعرفة، وأن يعاد لها اعتبارها، ليس باستنساخها، وإنما بتجديدها. لا بد من تحقيق اختراقات فكرية، وإعادة تركيب المفاهيم وترتيبها، قبل الولوج في صياغة برنامج نهضوي علمي جديد.