وَحْيٌ من الذاكِرِةِ أَم هَمْسٌ مِنَ القَلْبِ.. حَدَثٌّ وحَديِثٌ ”9“
هناك لوحات مُعاشة جميلة ناطقة، في حياة، كل فرد منا، شغلت ”بامتيازٍ“ وإِثارةٍ وانتباه جاذبين، حيزًا مرموقًا في لُباب خِضم سِجلات ذخيرة مخزون الذاكرة الاستيعابية الأُساسية؛ وحظيت ”بمونتاج“ فاخِر عطِر، قلَّما يُمحى أَثره النابض، ويَبلى شريطه الشاخص، ويَتلاشَى عبقة الفواح مِن قاعدة مَحفوظات الذاكرة الأُم، مَحفورة ومَحفوظة بصماتهم - بفخر واعتزاز - بكامل نصوصهم الذهبية، وأَطياف صورهم الوضاءة، ودَلالاتهم الرنانة - في جِعاب مطوية محمية، في مراكز حيوية، مِن أُصول خلايا الدماغ، نتوق، بتلقائية سهلة؛ ونسعد بشفافية سلسة، إِلى شغف تذكرهم جَميعًا، واسترجاعهم حِينًا، بعد أَن ننفض، برفق وروية، أَثر سقط ذرات الغُبار المتناثرة البلهاء، بحرية ذاتية، وأِريحية سَمحة، وطيب خاطر عابر، مستعِينِين تِباعًا، بإِشراق، وتأَلق، وسطوع تلك المقاطع الحُبلى، واللقطات الملونة، مِن حِرز أَرشيف الصور المشرِّفة المثيرة، الضاربة بوقع أَقدامها الندية، بشموخٍ وطموح، في عُمق أطناب أَصالة، وأَحضان عَراقة المكان الحاضر؛ وتوقيت ساعة الزمان، المتحضرة الشاخصة، بخطى أَطيافهما الرمادية بُرهة؛ والباهرة الرائعة، بسحر نسق ”فلاشاتهما“ البكر المتباهية، حِينًا آخرًا، وسط حساسية المكان المخصوص، وخصوصية الزمان اامعاش، بعد أَن أَسعفتنا، ودعمتنا ”لوجستيًا“ غُرف ومناضد التحميض المظلمة آنذاك؛ وساندتنا فنيًا، آلات طبع الصور الملونة، وصولًا إِلى إِنتاج ”أَلبوم“ مختص مِن، أَنقى وأَرقى، الصور الذهنية الفاخرة الفارهة، مِن سيل أَكداس قديم الصور الموثقة الناطقة، صوتًا وصورةً!
وفي سِياق المقدمة الحميمة أَعلاه، أتذكر بوضُوح وصُدوح، في قُبيل مُنتصف عقد الثمانينيات، مِن القرن الميلادي المنصرم؛ وبالتحديد، في معمعة انخراطي في ”كورس“ فن الإِلقاء والخطابة الأَساسي في تخصصي الاَكاديمي المزدوج في «اللغة الإنجليزية، والإِتصال، والخطابة الجماهيرية» … تدفق وقتئذٍ حضور حافلات مدرسية مِن طلبة وطالباب المرحلة المتوسطة «Junior High School» المرشحبن لخوض غمار المنافسة الدورية في فن الإِلقاء الخطابي المرتجل، إِلى مرافق «جامعة نورث تكساس» العريقة، مِن مختلف مدارس المقاطعة المجاورة للجامعة، في موسم برنامج تنافسي مثير، تحتضنه وتشرف عليه إِدارة قسم الإتصال والخطابة بالجامعة… وقد رشحتني أْستاذة المادة، وثلة مِن زملائي، الدارسين معي في الكورس نفسه، بالإِشتراك في دورات مهمة التحكيم للمسابقة الإِلقائية التنافسية؛ وقد أُعِدَّت نماذج تقييمية خاصة لكل متسابق مِن الجنسين، وبنود تنظيمية أُخرى… هذا، وفَور الانتهاء المثير المميز، مِن معايشة ساعات أجواء الحماسة، ومشاهدة تأَلق وهج الإثارة؛ لتأسرني مِن أَعلى الرأس إِلى أَخمص القدم؛ وفي أَثناء ذلك، تلقيت بامتنان، ظرفًا ورقيًا صغيرًا، مِن أُستاذة المادة، بداخله قُصاصة صغيرة، تحوي جملة واحدة فقط، دونتها بخط يدها، وكان نصها: «لم أَستطع إِكمال هذا الإِنجاز الباهر لولا مُساعدتك!» … وبعد عَودتي إلى الوحدة السكنية، وأَنا غارق في قمم أَجواء الحماسة والإِثارة، والإِعجاب؛ عندئذٍ تناولت ورقةً وقلمًا؛ لأَكتب خاطرة حماسية بكر إِلى جريدة اليوم السعودية، الصادرة في مدينة الدمام، في صفحة كتابات الأُسبوعية، مُعربُا فيها عن شطرٍ مِن حماستي، وفيضٍ مِن إعجابي الشديدين آنذاك، بما عايشته؛ وسعدت بإِنجازه، مِن نبع ساخن متدفق، مِن نسق المهارات الطلابية الراقية؛ وفيض القدرات الخطابية الجريئة، في مواضيع عصرية - اجتماعية، وسياسية، وثقافية، وعلمية - متعددة شتى، تأسر الفكر؛ وتسر النفس؛ وتبهج الخاطر، لشبان وشابات، في مُقتبل العمر، يُغردون وبترنمون، في جنينة مِن الزهور، مِن جيل ناهض واعد؛ يتابعون الشدوَ والإِنشادَ، بنصوص مُختارة بعناية فائقة؛ ومُنتقاة بدراية متبصرة، تصب برمتها، في عمق بطون صَميم سِلال الأَحداث الحُبلى الساخنة الراهنة آنذاك، وفي ثنايا شرائح واسعة مِن مختلف مناحي أَصعِدة وأَذرعة الثقافة العامة الراهنة المعاشة…!
وفي ظل زحمة تلك المشاهد الحية، ومعمعة مسيرة المواكب المتقدمة، وكثرة المواقف الحماسية، تصورت واهمًا ظانًا، أَن لا أجد لها موقعا نظيرًا؛ أَو أَعثر على منبع مُماثل، في ربوع بلادي، يشفي ظمأ الغليل المتنامي، بعدما اُقفل عائدًا بشهادتي الأَكاديمية!… ولكن مَوجة التشاؤم السوداوية، لم تدم طويلا. ولم تُقبَر وتُطمَر هَبَّات نسمة الأَمل الحالمة، برمية سهم واحدة، كما ساقتني وقادتني تيارات الوهم المُضِل المُحبِط إلى قدر جادة مُنحَصر ومُنحدر سحيقين مظلمين! … إِذ إِبَّان عودتي مُباشرة، بعد منتصف عقد الثمانينيات المنصرم نفسه، التحقت مباشرة، مُعلمًا للغة الإنجليزية، بمدارس الهيئة الملكية العامرة بمدينة الجبيل الصناعية آنذاك؛ وقد نَعمت وسَعدت، ”بمَندُوحَة وبُحبُوحَة“ مِن الحماسة، والإثارة، والإعجاب، لم أجد لهما مثيلًا مِن ذي قبل! وربما فاقت ما قد عايشته، وأَلفته، أَثناء فترة ابتعاثي للدراسة، في أَمريكا... ومِن بين رُكام أَكداس ذلك التميز والتفوق، الملحوظ المتأَلق، بمدارس تعليم الهيئة الملكية الرسمية: تدريس مادة اللغة الإِنجليزية، مِن بداية الصف الأول الابتائي؛ وتدريس مبادئ الحاسب الآلي، مِن بداية الصف الثالث الابتدائي… وهناك اهتمام واسع نشط، بمختلف أَنماط الأَنشطة أَللامنهجية، وأَللاصفية، تضطلع مدارس الهيئة الملكية بتنظيمها، وإِحيائها، قلبًا وقالبًا: كالمسابقات والمباريات الرباضية والمنهجية؛ وتشجيع المسابقات، والمطارحات الشعرية؛ وإقامة معارض التربية الفنية؛ وتنظيم الحفل الشامل للأَنشطة الرياضية الاستعراضية الختامية، قبيل نهاية العام الدراسي، الذي يشرِّفه ويرعاه سعادة المدير العام للهيئة الملكية، بمشروع مدينة الجبيل الصناعية، على استاد الحويلات الرياضي؛ وكذا المسابقات المنافِسة في دورات الحساب الذهني الدولية؛ ومسابقات مهارات التفكير؛ واستعراض شامل لأنشطة وأساليب وطرائق التدريس التربوية الحديثة، بما فيها استخدام فنيات السبورة الذكية أَثناء لقاء أَولياء الأمور؛ وحفل ”اليوم المفتوح“ لتكريم الطلاب المتفوقين، بكل مدرسة؛ وما استجد بعد ذلك مِن مسابقات ومنافسات أخرى… ولا أكاد أَنسى فنيات، وابداعات، ومنجزات الحفل المسرحي الختامي السنوي الذي يشرِّفه سعادة المدير العام المبجل، لمشروع الجبيل، وكبار الموظفين المحترمين؛ وجناب أولياء الأُمور الأفاضل، وجَمع جَم غَفير مِن الطلاب الكرام، على قاعة مسرح حي الحويلات المعروفة.... ولن يصرفني نبض الحماسة؛ ويبعدني تيار الإَثارة - المزاحِمَين لمِداد قلمي المتولضع - عن ذكر إقامة وتنظيم مختلف الدورات التدريبية والإِثرائية المكثفة؛ والندوات المتخصصة المبرمجة للمعلمين، بجميع التخصصات؛ وكذلك مُدراء المدارس، والطاقم الإداري بأكمله؛ والمشرفين التربويين…
ما تقدم ذكره هو غيض مِن فيض؛ وسيل مِن هطل، مِِن غمر واسع شامل مِن، كامل وتام، استعدادات، وخطط، وبرامج متجددة؛ وأَهداف بعيدة المدى، اختطتها - بكفاءة واقتدار - الإدارة العامة للهيئة الملكية للجبيل وينبع، أسلوبًا مميزًا، وتطبيقًا ناجعُا؛ وتربية واعدة، ومنهجَ حياة؛ لتربية شاملة، وتنمية المواهب الواعدة، وإِعداد العقول النيرة لفلول الأَجيال القادمة، المنطلقة، بحرية وطلاقة، إِلى أَطراف شواطئ مستقبل فاخر زاخر… وبالله التوفيق، ومنه نستمد العون والتدبير!