آخر تحديث: 10 / 10 / 2024م - 10:16 م

‎تَأَمُّلاَتٌ فِي لَحظَةِ صَفَاء

عبد الله أمان

• ولو تأملت أوراقي لتقرأها… رأيت تأمُّلاتي جُل أوراقي!

1. في لَحظات صفاء الأُنس، وسُويعات نقاء السريرة، في جُنح ليلة مُضيئة مُقمرة، تتلألأ وتتجمَّل باصطفاف منظومة حزم شعاع الشمعة المنبعثة مِن منبع مساراتها الخافتة النافذة؛ لتضيء ما حولها بإِسراف مُغدق؛ لينتشر ضؤها في سائر أركان الغرفة الدافئة؛ لتوقظ، برفق وترقق، في متسع ساحة المكان الموعود؛ وتحنو بشفقة ورأفة في ”رتابة“ الزمان المشهود؛ وتستحوذ على أَعماق بهجة النفس المستبشرة، راحةً متيقظةً متنَبِّهة؛ واستجمامًا واعيًا مريحًا، يستحثان بنشاط، صَحوة مبكرة، تداعب سِنَة مشاعر الفِكر الناعسة الناعمة؛ لتتنهد وتتوقد مِن غطيط غفوتها رويدًا، رويدًا، في جوف فساحة مجلسها الرحب؛ وتبدأ سائر مجاسِّها الحساسة النابضة في، تسنيم وتصعيد، إمداد زِناد فتيلها المنتشي المتوهج حماسة واتقادًا، في خطوط ذهبية متكافئة مترافقة، مع زحف حزم ضوء الشمعة النابض؛ لتتحدا، وتتساعدا الحزمتان التِّرب معًا - على ظهر مركب سائر واحد - في أَعلى ناصية صحوة استيقاظ مشاعل الفكر المتوقد نشوةً، والمانح بشاشةً؛ ليُرى ويَندى كرم السخاء، القابع في ضفته الهادئة، برفد وإِهداء هطل مِن ”فلاشات“ شتى، مِن جيب سخي مِن حافظة الصور البكر الخاطفة المتواردة ذاتها؛ وتُهدي خاصة ”شخوص“ أَندادها المدعوة حَفاوةً وتكريمُا: بأَنماط وأَحجام وأَشكال وكتل وحزم مِن المجسمات الحاضرة؛ ومثلها ”تتبرَّج وتتبهرج“ بأَريحية سَلِسة، نسق بنات الفكر المترافقة مبارزةً؛ وتتداخل أَطياف جمع المعاملات الرابضة تجلدًا؛ وتتموضع أَسفاط ريع السلوكيات المتقوقعة اصطبارًا؛ و”تتظاهر“ بهرج ومرج ”بصُراخ ضجيجها، ونِياح عجيجها، مخرجات أوامر النفس، المنبثة المنسابة، باسطة ذراعيها المفتولبن، كفديم عادتها الهوجاء… بتمام أَهليتها المعتبرة، وكامل أَبعادها الثلاثية،“ الفيزيائية والهندسية" الملونة… ليتم تدفق وتبادل المداولات الحية النشطة؛ وتُعقد الصفقات الثنائية المنتعشة تباعًا؛ وتُتخذ أَصعب وأَنصب القرارات الحاسمة الصارمة لِزامًا؛ وتُصفَّى أَعسر المظالم، وأَعقد الشكاوَى، أمام مَناضد مُرافعات ثورة النفس الأَمِّارة بالسوء، بمعية مداولات فورة الهياج الشاطر الماكر؛ ويُنقَّى ما التفَّ واعوجَّ… بوَقاحة وصَلافة مكرها الغادر السافر؛ ليُقوَّم ما انكمش وانتكس؛ ويُغَربَل ما خَبُُث وطَمَس؛ ويرمم ما انشطر وانكسر!… في مقام فساحة المجلس ذاته، بحضور ثلة مِن الشُهود الصُدُوق العُدُول!

2. إنَّ أَهم المواقف الحيوية، والّإِنجازات العملية، في طُول وعَرض، مِشوار حياتنا المُعاشة يجب أَن نرسمها بحنكة ذاتية؛ ونشكلها بحصافة ”احترافية“ متيقظة؛ ونعلقها، أَوسمة صادقة، على جباهنا وصدورنا بشفافية، وطيب خاطر، داخل أطر عسجدية المظهر، ومخملية المخبر، نتذكرها، بفخر واعتزاز، كلما غابت عن أَذهاننا فائق أَشعتها العسجدية؛ وأَقصى الزمن الغادر بريقها؛ وعكَّر، عَبثًا ونِكاية، ماء وجهها الغض النضر، عن استعادة دوحة الصفاء؛ واسترجاع ساحة النقاء، إِلى دِفاف مراقي صِهاء فكرنا المتجددة؛ وربما يسوغ لأَحدنا استحبابًا واستحسانًا، تمرير وتحرير، نسق ديباجة تفاصيلها المعاشة المثيرة - الغائبة الحاضرة - في مخيلة عقول أَنجالنا وأَحفادنا وأَترابنا، لنزيد مِن أَلق بريق، وتألق سُطوع فَيالق تلك المواقف، وحَمهرة صفوف الإِنجازات المشرِّفة؛ ونشيد ونمتدح دمغ البصمات الشاخصة الشاهدة، كمًا وكيفًا؛ ونحتفظ لاحقًا، بكامل أُطرها المُونِقة البهية؛ ونتسلم، مِن هناك، مَطويات أُطروحاتها الأَلمعية، بقبول حسن؛ ونُشِيد ونَعتز بأَدق جزئيات التفاصيل الهامشية لمحتواها الجاذبة، لتبقى ذكراها الماثلة، أيقونات فخر، وسَيماء اعتزاز، متلألئة مشرِقة - أَنَّى ذهبنا وارتحلنا - لا يخمد ضؤها الساطع، ولا يبلى فتيل مصابيحها الوقادة… ومِن تلك المواقف الثبت الراسخة، والإنجازات الحيوية الراكزة، يقفز سراعًا معجَّلًا، إِلى ناصية ذهني: ذكريات سنوات الطفولة، وتربها الرِّدء مرحلة الفتوة؛ وذكريات أيام الخطوبة، ومراسيم الزواج؛ و”نكهة“ التخرج الدراسي، ونيل الشهادة، والانخراط في السلك الوظيفي؛ ومثلها ذكريات ”سيرة ومسيرة“ سِني الكفاح وعُنفوان نشوة الإنجاز، وديمومة العمل الميداني البنائي المتواصل؛ ولاحِقًا، التمتع بأرائك استراحة فترة ما بعد سِن التقاعد؛ وكذلك فحص وتفقد أَكداس وأَكوام سِجلات رحلاتنا المكوكية، وإِشهار سالك بطاقات التَّطواف الحر في شتى آفاق الأَمصار، ومناحي الأَقطار، وسائر البلدان؛ والتنقل المزاحم في مخنلف أَصقاع القارات… والأهم أَن نجهِّز ونُعد إِطارًا جديدًا مميزًا، يستوعب سلة المواقف الدسمة المُحدَودبَة؛ ويتسع لبوتقة الإنجازات الحاضرة الراهنة، في دفتي مَتن مرحلة ما بعد سن التقاعد؛ وأن نملأها بكفاءةٍ وجدارةٍ، بالجديد والمفيد؛ ونعبئها، بقناعة وميسَّرة، مِن فيض المزيد مِن أَنفاس أَرصدة ”العُدة والعَتاد“ … أَوقات الراحة، وساعات الاستجمام، ومختلف وجديد الهوايات المحببة؛ وأَن نزيد ونكثر مِن أَندى حميم لقاءاتنا الأُسرية المتجددة الحانية، وسط جمع أَنجالنا وأَحفادنا البررة؛ وزيارة كوكبة أَرحامنا وأَقاربنا الأعزاء، وعيادة ثلة الأَصدقاء الصُّدُق، وجمع الأَصحاب الأوفياء… والأهَم الأَعَم، أَن نعمل ونهتم بتزويق، وتنميق صائبين دائبين، باجتهاد واكتداد؛ لإِعداد الإطار الأَجَل الأنضر، ذي ريع الإِنجاز المعتبر الأَعطر، وسطوع البصمة الدائمة الأَكثر، لعرضه في يوم الفزع الأَكبر… إِطار العمل الصالح الفائز، ورِدئه: دفتا متن ”صفاء ونقاء“ الصحيفة البيضاء المُرضِية؛ للتقرب الخالص الصِّرف بهما معًا - رحمة وغفرانًا - إلى مقام رب العزة والجلال، تبارك وتعالى؛ وطلب شفاعة نبيه الصادق الأَمين، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلاَّ مَن أَتى الله بقلب سليم!

3. لمحت ذات مَرة - وعلى حِين غُرة - مثلًا شعبيًا جاذبًا، قابعًا، بوداعة وبساطة، في طرف صِمَاخِ جُعبةٍ صغيرةٍ مِن خاصرة سلة الثقافة الغربية العريقة الحُبلى، مجهول المصدر، وبليغ المخبر، مفاده: «إِنَّ البيت الصغير يمكنه أَن يتسع ويشع بالسعادة، مثل البيت الكبير!» … تأَملت كَثيرًا، وأَنعمت الفكر مَليًا، وأَمعنت النظر سَاعة، كقديم عادتى المتبصرة، في صحوة يوم مشرق دافئ… عندها، خطر بمخيلتي المتيقظة سيل عرم مِن فلاشات زحف الصور الملونة، بفِيزيائية مَحَاطها المكانية؛ وجُغرافية مَواقيتها الزمانية؛ وفَلكية وجودها التكوينية؛ ومِيتافيزيقية منشأ رُسومها البدائية العتيقة؛ ومِيثولوجية سَيماء خِلقتها، ورُسومها، ونُقوشها التصويرية النمطية، لسابق وسالف عقود مضت وخلت وتصرَّمت؛ تهافتت أَصداؤها الموجَّهة المترددة، بغوغائية حَمقاء خَرقاء، كتهافت الفَراش الحائر على صهوة النار… عندئدٍ، يحلو لي، بيسر وسهولة، فتح باب مُوصد مُتسع أَمام ناظري، لرَدْح وصَدْح، يوم مُعاش مِن نمط الحياة المعتادة للآباء والأَجداد الكرام، الذين استمتعوا وعاشوا ردحًا، سُعداء لُطفاء مَحبورين، في وسط أَكناف وأَحضان أُسر مركبة ممتدة، في عُقر بيوت حجرية، مكعبة الشكل، وطولية البناء، ومقننة المساحة، ومحددة الوساعة؛ مُتلاصقة مُتراصة، وقد اكتظت الغرفة الواحدة بأفراد أُسرة نامية كاملة، ومازال مقام الإِشراف المباشر، والسلطة المسيِّرة للشؤون الأُسرية الداخلية آنذاك، لدى ”فسح وفصل“ الجد والجدة الحانيين المؤنسين يديران ويدبران أمور وشؤون ذلك الحشد العائلي الكبير مِن الأنفس، داخل جدران المنزل الواحد، بتعدد الأَجبال الماثلة الحاضرة في عُمق جوفه الحاضن؛ وفي زمن شظف العيش، وبَساطة المَعَاش، وقِلة المورِد، وشُح المدخُول، وكَفَاف مِن الرزق… وفي وسط تلك المعمعة الساحبة المُطبِقة مِن شدةِ الفقر، وسِدادٍ مِن عَوَز، وضَيق مِن إِملاق، تتصافى القلوب المتآخية، وتتجانس الأَمزجة المتقاربة، وتتمازج المشارب المتماثلة، وتتصاهر الهموم المشتركة… ويتزاوج أَنجال وبنات الأُخوة، على سنة الله ورسوله، على بسط المحبة، وفي أَجواء قمة الوئام والانسجام؛ وتتناسل وتتكاثر أَسعد وأَبهج الزيجات المتحابة المتراضية، بين جدران البيت الصغير الواحد، تسود بين مَعشرهم الألمعي القائم أَواصر السعادة، وتحرسهم إدارة مُطاعة ”رَاضية مَرضية“ مِن لدن سَماحة ونَباهة وحِنكة وقِيادة ”طاقم“ ثنائي نوخذا المركب العامر الظافر: الجد والجدة... فما أَسمى سماحة ورصانة القيادة الباهرة الظافرة! وما أَبهج وأَغبط مَندُوحة سعادة جمع المَقُودِين الطائعين، جمعًا وآحادًا، آنذاك!