آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 5:50 م

الجابري ونقد العقل العربي

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

رغم مضي قرابة أربعة عقود، منذ بدأ الدكتور محمد عابد الجابري نشر مشروعه عن العقل العربي، فإن ما أثاره هذا المشروع، من سجال ونقاشات فكرية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وربما يكون مشروعه، هو الأكثر حضوراً بين المشاريع العربية، التي طرحت في الخمسين سنة الأخيرة، نقداً وقراءة. فقد كتب حوله عشرات الكتب ومئات المقالات.

تناول نقد الجابري، للعقل العربي، التراث في حركته، بعد أن حدد زمنه، منذ بروز دولة الخلافة، حتى يومنا هذا. واعتبر هذا النقد خطوة جوهرية، على طريق التقدم، وجزءاً أساسياً من مشروع النهضة. إن العقل الذي مارس نقده، هو عقل تشكل داخل الثقافة العربية، وعمل على إعادة إنتاجها في حلقات مستمرة. والهدف من النقد، هو التحرر من إسار القراءات المألوفة، وإعادة النظر بالمعطيات الثقافية العربية، من دون التزام بما هو راسخ من وجهات نظر.

صنف الجابري، في نقده للعقل العربي، مراحل تطور هذا العقل، إلى منظومات فكرية، ذات علاقة مباشرة، بالتطورات التاريخية، التي أخذت مكانها بالساحة العربية الإسلامية. ورغم ما بدا من التزام بالكانطية، والهيجلية، حيث يقرأ الفكر العربي، من داخله، من غير إسقاطات الواقع الاجتماعي عليه، فإن القراءة الدقيقة لمشروعه، توضح أنه لم يستطع الفكاك من ربط الفكر بالتطور التاريخي والاجتماعي الذي ساد إبّان حقب دراسته.

إن التحقيب الذي انتهجه عبر مجلداته الأربعة، للثقافة العربية منذ بزوغ الإسلام، حتى قيام دولة الموحدين، وبروز فلسفة ابن رشد، والذي حدده بثلاث مراحل: العرفان والبيان والبرهان، لم يكن من وجهة نظره، تحقيباً للفكر فقط، بل هو أيضاً، رصد للتفاعل بين الفكر وبيئته ومناخاته. إن المهم في نقد العقل العربي، ليس الأفكار ذاتها، بل الأداة المنتجة لها. وهنا نجد بعض الارتباك في التمييز بين الفكر كمحتوى، والفكر كأداة لإنتاج الأفكار. يتبدى ذلك بوضوح، عند الحديث عن العلاقة بين اللغة والفكر، وبين الإبستمولوجي والأيديولوجي، في تكوين الثقافة العربية.

إن طريق التقدم من وجهة نظره، يقتضي أن تتحول الأمة من أمة تراثية، إلى أمة بتراث. بمعنى ألا يكون التراث عبئاً على حركة الأمة وتطورها. إن ذلك يتطلب إعادة تركيب المفاهيم. وفي هذا السياق، يحذر من استيراد المفاهيم، من مصدرها «الأجنبي»، دون العمل على توطينها.

في كتابه «إشكاليات العربي المعاصر» وتحت عنوان «كيف نفهم العلاقة بين الفكر والواقع» يؤكد الجابري، أن المفكر السياسي، «لا يعبّر عادة عن قيمه الخاصة، بقدر ما يعبًر بطريقة شعورية أو لا شعورية، عن قيم جماعة اجتماعية، أكبر ينتمي إليها. وفي كثير من الحالات عن طبقة اجتماعية يدافع عنها». لكنه في ذات الوقت يرى أن هناك استقلالاً نسبياً بين الفكر والواقع، ولذلك يطالب بالتمييز في الفكر ذاته، بين مستويات تتفاوت في استقلالها النسبي عن الواقع. إن الاعتراف بالربط الجدلي بين الفكر والواقع، المستند إلى التسليم، بنسبية استقلال الفكر، حتى في أكثر القضايا التصاقاً بالواقع، كالفكر السياسي، والفكر الاجتماعي، يفرض وجود مسافات، تفصل الفكر عن الواقع، وتجعله مرشداً للحركة التاريخية، حتى وإن كان ذلك على مستوى التجريد وسلم الزمن والتاريخ.

وهنا نجد توليفة جديدة، يحضر فيها كانط وهيجل وماركس معاً. فالفكر من جهة نتاج تاريخي ومرتبط بالواقع، لكن ذلك لا يمنع استقلاله النسبي عن الواقع. وهنا تحضر مقولة هيجل أن الفكر قوة تاريخية. في حين يركز الفكر المادي على أن الفكر مصدره الدماغ.

المعضلة الأخرى، التي وقع فيها الجابري مع عدد آخر من المفكرين هي التحقيب. وهي فكرة حتى وإن بدت مقبولة، ضمن القراءة التاريخية التي فصّلها، لكن الأفكار لا ترتبط بزمن محدد. فالفكر المادي والمثالي، تواجدا باستمرار، منذ برزت الفلسفة الإغريقية. لكن المؤكد أن علاقة التبادل في الحضور بينهما، ظلت قائمة باستمرار، وخاضعة لقانون الدورة التاريخية، يتكثف حضور رؤية فلسفية وتبهت أخرى. فهناك في العصر العباسي، على سبيل المثال زمن للأشعرية، وآخر للمعتزلة. وهكذا التاريخ الإنساني دائماً.

لكن الذي لا شك فيه، أن الجابري، ظل باستمرار، ناقداً للتاريخ، ومؤمناً بالمستقبل ومكافحاً، عن حق الأمة العربية، في النهضة والتنمية والتطور. إن غاية النقد هي التحرر مما هو ميت، أو متخشب، في كياننا العقلي. والهدف كما يوضح هو «فسح المجال للحياة، كي تستأنف فينا دورتها، وتعيد فينا روعتها». والأمل أن تفعل ذلك فينا قريباً.