الفارابي ومفارقة الجابري
هناك مفارقة أراها مدهشة تستحق التوقف عندها والنظر فيها، جمعت هذه المفارقة وفارقت بين حالتين، حالة قديمة ترتد إلى القرن العاشر الميلادي حدثت مع الفيلسوف أبي نصر الفارابي «260-339 هـ /874-950م» الذي جمع بين حكيمين من حكماء اليونان هما: أفلاطون «427-348 ق. م» وأرسطو «384-322 ق. م»، وحالة حديثة تعود إلى أواخر القرن العشرين حدثت مع الدكتور محمد عابد الجابري «1935-2010م» الذي فرق بين حكيمين من حكماء المسلمين هما: ابن سينا «370-428 هـ /980-1037م» وابن رشد «520-595 هـ /1126-1198م».
المدهش في هذه المفارقة أن الفارابي جمع بين حكيمين لا ينتميان إلى ديانته، ولا يحسبان على حضارته وثقافته، ولا ينتسبان إلى تاريخه، وبينه وبينهما فاصل زمني يقطع بين عصرين، عصر ما قبل الميلاد وعصر ما بعده. في المقابل نرى الجابري فرق بين حكيمين ينتميان إلى ديانته، ويحسبان على حضارته وثقافته، وينتسبان إلى تاريخه، وليس بينه وبينهما ذلك الفاصل الزمني الذي يقطع كليًا بين عصرين ما قبل وما بعد.
وبحسب هذه الموازين كان يفترض أن يحدث العكس، الفارابي يفرق بين الحكيمين الغريبين عنه والبعيدين، والجابري يجمع بين الحكيمين المألوفين لديه والقريبين. ولو حدث ذلك بهذه الطريقة العكسية لما وجدناه خارج نطاق المعقولية، ولمضت هذه الظاهرة بصورة عادية لا دهشة فيها ولا إثارة، وانتفت حينئذ الحاجة إلى مثل هذه المقاربة الفارقة.
وتتأكد هذه المفارقة عند معرفة ما بين هؤلاء الحكماء الأربعة من جوامع وفوارق، فمن جهة يعد أفلاطون وأرسطو من أشهر فلاسفة اليونان على الإطلاق، وكل واحد منهما صاحب مذهب فلسفي يعرف به هما: الأفلاطونية والأرسطية. كما أن ابن سينا وابن رشد هما من أشهر فلاسفة المسلمين على الإطلاق، وكل واحد منهما يعد صاحب مذهب فلسفي يعرف به هما: السينوية والرشدية.
من وجه آخر، أن لحظة ابن سينا في ساحة الفكر العربي الإسلامي تعادل أو تتشبه بلحظة أفلاطون في ساحة الفكر اليوناني، ولحظة ابن رشد في ساحة الفكر العربي الإسلامي تعادل أو تتشبه بلحظة أرسطو في ساحة الفكر اليوناني.
من وجه ثالث، أن أفلاطون وأرسطو هما من أكثر فلاسفة اليونان القدماء حضورًا وتأثيرًا في ساحة الفكر العربي الإسلامي القديم، كما أن ابن سينا وابن رشد هما من أكثر فلاسفة المسلمين القدماء حضورًا وتأثيرًا في ساحة الفكر الأوروبي الوسيط وما بعده، ظهر ذلك متجليًا فيما عرف عند الأوروبيين وفي أدبياتهم متمثلا بالسينوية اللاتينية والرشدية اللاتينية.
أما من جهة الفوارق، فإن أفلاطون وأرسطو كانا متعاصرين، وقد تتلمذ أرسطو في فترة شبابه على أفلاطون، مع أنهما من منطقتين مختلفتين، فأفلاطون ينتسب إلى أثينا المدينة التي ولد فيها، بينما ينتسب أرسطو إلى مقدونيا المنطقة المجاورة إلى اليونان من جهة الشمال. وعلى مستوى المعرفة، فقد عرف أفلاطون بعنايته بموضوع النفس، بينما عرف أرسطو بعنايته بموضوع العقل.
في المقابل فإن ابن سينا وابن رشد لم يكونا متعاصرين، ويفصل بينهما من ناحية الزمن ما يزيد على قرن ونصف القرن، فالأول عاش ما بين القرن الرابع إلى العقد الثالث من القرن الخامس الهجري، والثاني عاش في القرن السادس الهجري إلى أواخره، ومن جهة المكان فبينهما مسافات طويلة تفصل ما بين شرق العالم الإسلامي وغربه، فابن سينا ولد في منطقة قريبة من بخارى في بلاد فارس شرق العالم الإسلامي، بينما ولد ابن رشد في قرطبة عاصمة بلاد الأندلس غرب العالم الإسلامي. وأما من جهة المعرفة فقد عرف ابن سينا بعنايته بموضوع النفس، بينما عرف ابن رشد بعنايته بموضوع العقل.
والسؤال ما الذي جعل الفارابي يجمع في عصره بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو؟ وما الذي جعل الجابري يفرق في عصره بين الحكيمين ابن سينا وابن رشد؟
أقدم الفارابي على خطوته وهو يعلم أنه يتعامل مع حكيمين من خارج ملته، وكان على دراية عالية بعلوم ومعارف هذين الحكيمين، بل لا أحد يفوقه في عصره ولا أحد يتقدم عليه في هذه المعرفة، ولم يجد حرجًا في التعامل معهما، والاقتراب منهما، والكتابة عنهما، مسجلا موقفه، وشارحًا رأيه في كتاب شهير بعنوان: «الجمع بين رأيي الحكيمين»، ناظرًا لهما بوصفهما الحكيمين المقدمين المبرزين، مبدعين للفلسفة، ومنشئين لأوائلها وأصولها، ومتممين لأواخرها وفروعها، وعليهما المعول في قليلها وكثيرها، وإليهما المرجع في يسيرها وخطيرها، وما يصدر عنهما في كل فن إنما هو الأصل المعتمد عليه لخلوه من الشوائب والكدر.
والجابري أقدم كذلك على خطوته وهو يعلم أنه يتعامل مع حكيمين من داخل ملته، وكان على دراية بمعارفهما، مسجلا موقفه، وشارحًا رأيه في كتاب شهير بعنوان: «نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» صدر سنة 1980م، ناظرًا إلى هذين الحكيمين ابن سينا وابن رشد بوصفهما معبرين عن روحين ونظامين فكريين مختلفين ومتباعدين، أحدهما ينتمي إلى الشرق الإسلامي متمثلا في الروح السينوية نسبة لابن سينا، والآخر ينتمي إلى الغرب الإسلامي متمثلا في الروح الرشدية نسبة لابن رشد، مقدرًا قطيعة بينهما تمس في آن واحد المنهج والمفاهيم والإشكالية.
وبقدر ما لفتت خطوة الفارابي في الجمع بين الحكيمين انتباه الكتاب والباحثين في عصره وما بعده وإلى اليوم، بقدر ما لفتت أيضا خطوة الجابري في القطع بين الحكيمين انتباه الكتاب والباحثين في عصره وما بعده. فخطوة الفارابي ظلت وما زالت مدار بحث ونظر سعيًا لمعرفة ما وراءها من حكمة وغاية، متسائلين عنها ومتناظرين. وكذا الحال حدث مع خطوة الجابري التي ظلت كذلك وما زالت مدار بحث ونظر سعيًا لمعرفة ما وراءها من حكمة وغاية، متسائلين عنها ومتناظرين، ناقدين لها ومعترضين في العموم الأغلب.
لم تكن خطوة الفارابي بعيدة عن انتباه الجابري نفسه، الذي توقف عندها ناظرًا فيها ومناقشًا، مقدمًا قراءة غلب عليها الطابع الأيديولوجي الواضح، راغبًا بهذه السمة الأيديولوجية في قراءة التراث ومستحسنًا، متأملا منها إنجاز قراءة واعية، قائلا عن قراءته وواصفًا لها «إنها قراءة أيديولوجية ولا شك»، مفضلا ألف مرة - حسب قوله - محاولة قراءة التراث قراءة أيديولوجية واعية، بدل الاستمرار في قراءة أيديولوجية مزيفة غير واعية.
في هذه القراءة اعتبر الجابري أن الصراع الاجتماعي الحضاري الصاخب، هو الذي دفع الفارابي في عصره إلى الجمع بين رأيي الحكيمين، هادفًا منه الجمع بين آراء معاصريه، سعيًا لتوحيد الرؤية الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، وإزالة الشك والارتياب، وتحقيق التعاون بين سائر الأفراد والفئات، في ظل صراع حاد ومرير بين قوى مختلفة، لم تكن أيّ منها تملك القدرة على فرض سيطرتها وتعميم أيديولوجيتها.
الجابري الذي تنبه لخطوة الفارابي في الجمع بين الحكيمين، مقدمًا قراءة أيديولوجية، متلمسًا منها تحقيق الوعي، يفترض منه إما من باب المقايسة أو باب الاستحسان أو باب الأولوية، أن يكون أقرب إلى هذه الطريقة النموذجية التي تتخذ من الجمع معيارًا، ومن التقريب مسلكًا. لكنه خالف هذا المسار، وسلك دربًا لا يصلح أن يكون نموذجًا لأنه لم يكن موفقًا من جهة، ولأنه من جهة أخرى يتخذ من الفرقة معيارًا.
علمًا أن الحاجة إلى الجمع بين ابن سينا وابن رشد في عصرنا الذي عايشه الجابري، كان أولى وأهم وأقرب إلى عالم الحقيقة من خطوة الفارابي في الجمع بين أفلاطون وأرسطو في ذلك العصر. فهذه الخطوة من الفارابي جاءت متصنعة، ولم تكن لها ضرورة حقيقية لا من ناحية النظر ولا من ناحية العمل، وقد أسهمت في تكريس الأفلاطونية والأرسطية في بنية الفكر الفلسفي الإسلامي، وفي ساحة الفكر الإسلامي بوجه عام، بدل التخفف منهما تحررًا من نهج التبعية والتقليد.
من جانب آخر، واستنادًا إلى قراءة الجابري وعملا بها، فإن الصراع الاجتماعي والفكري والحضاري الذي هو في عصرنا أشد حدة ومرارة، وبلا قياس من الصراع الذي كان في عصر الفارابي، كان يفترض أن يشكل دافعًا قويًا للجابري نحو الجمع بين ابن سينا وابن رشد، من أجل الجمع بين آراء المعاصرين المتنازعين، وسعيًا لتوحيد أو تقريب الرؤية الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، وإزالة الشك والارتياب، وتحقيق التعاون بين سائر الأفراد والفئات، في ظل صراع حاد ومرير بين القوى المختلفة التي مزقت الأمة إلى مذاهب وجماعات متصادمة مشرقًا ومغربًا.
الأمر الذي يعني أن قراءة الجابري لخطوة الفارابي، هي أكثر انطباقًا وأشد حاجة لعصرنا من عصر الفارابي، وكأن الجابري بهذه الخطوة منه قد قرأ عصر الفارابي بمنظور عصرنا. في حين أن مقتضى الجمع في عصر الفارابي هو تمامًا مقتضى الجمع في عصرنا، بل هو في عصرنا أشد ضرورة، مع ذلك خالف الجابري القاعدة وفرق بين الحكيمين.
والإشكالية الحرجة مع الجابري، أنه لم يفرق بين ابن سينا وابن رشد فحسب، وإنما فرق كذلك وباعد بين المشرق العربي الإسلامي والمغرب العربي الإسلامي، فاصلا بينهما من ناحية النظام الفكري، ومن ناحية الروح العامة، وأراد أن يسحب هذه الإشكالية من الماضي إلى الحاضر، بشكل نظهر وكأننا ننتمي إلى أمتين وثقافتين وعالمين!
وبناء على هذه المفارقة وهذه المقايسة، نرى أننا بحاجة اليوم إلى روحية الفارابي في هذا الشأن، كونها روحية تتوسم بسمات الجامعية والتوافقية والتقاربية، ونقدمها على روحية الجابري التي تتوسم بسمات التفارقية والتقاطعية والتخالفية ليس مع الأغيار والبعيدين فحسب، وإنما مع القريبين من أهل الملة الواحدة والثقافة الواحدة!