آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

في حين يُؤْمِن دعاة تفوق العرق الأبيض ب ”النقاء“ الجيني. يثبت العلم أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل

عدنان أحمد الحاجي *

بقلم دينيس مكنيفين

28 سبتمبر 2020

المترجم: عدنان أحمد الحاجي

قدم له وراجعه عادل عبدالله البشراوي، باحث في علم الانسان القديم

المقال رقم 401 لسنة 2020

White supremacists believe in genetic ‘purity’. Science shows no such thing exists

Dennis McNevin

September 28,2020

مقدمة عادل عبدالله البشراوي

بالرغم من التطور العلمي والتقني الكبير الذي شهدته المجتماعات البشرية، إلا أنه وكما يبدو لا يزال البعض محتفظًا بنماذج فكرية قديمة وبالية. أكثر هذه النماذج هي مايتعلق بالعرق، وهذا رغم ترددي الشديد في استخدام هذا المصطلح - العرق - حيث أجد فيه امتدادًا لهذه النماذج البالية ولعدة أسباب سوف نأتي على ذكرها لاحقًا.

للإنصاف، فدعاة النقاء العرقي ليست تلك الشريحة ”البيضاء“ المعنية في التقرير، بل سوف يجد المتتبع قصص التفوق والصفاء العرقي في تراث أغلب شعوب العالم. والأعجب أن إدعاء التفوق والصفاء والنقاء غالبًا ما يأتي مقرونًا بتعاليم روحية دينية، هذا رغم الصبغة الأخلاقية التي يحاول البعض إضفاءها على المحتوى العقدي الذي يتبناه. وبرأيي المتواضع، فإن الإعتقاد بوجود فوارق تفضيلية بين شعوب العالم مخالف للأخلاق وللقيم الإنسانية، وحري بأي عقيدة أن تبريء ساحتها منه.

دائما ما ألاحظ تشدق البعض بأصوله العربية، وأنه نسل من أجداد عرب أقحاح تجذرت منابعهم في شبه الجزيرة، وتفردت أنسابهم التي يحتفظون بتسلسلها في الملفات والدفاتر. والمضحك أن تقرأ في نهاية هذه السلاسل انتهاءها بالنسب إلى سام بن نوح!!

هم يتعاملون مع الظاهرة بطريقة توحي بأن سكان الجزيرة العربية لم يبرحوا ديارهم طيلة عشرات الآلاف من السنين، ولم ينزح إليها أحد من خارجها طوال هذه الفترة، وكأن شبه الجزيرة قنينة أحكم إغلاقها. في حين أن شبه الجزيرة هي بين أكثر بقاع العالم تجددًا في تركيبتها الديموغرافية، وخصوصا في أطرافها المنفتحة على فضاء آسيا وأوروبا وإفريقيا، وتحديدًا في أهم معبرين عالميين وهما شبه جزيرة سيناء ومضيق باب المندب. وهما المعبران اللذان سلكهما رواد الإنتشار البشري الأول من إفريقيا، وكانا أيضا طريقي الإياب إليها.

مضحك أيضًا القول بأن موطن العرب الأصلي هو اليمن، في حين أن انتشار اللغة العربية في اليمن لم يستتب إلا بعد الفتح الإسلامي. وهو أمر يستدعينا لضرورة الإتفاق على تعاريف علمية لمصطلحات العرب والعروبة والعربية.

اعتقادي الجازم والذي فصلته في عدة مناسبات هو أن بشر اليوم هم عبارة عن هجين واحد نتج عن عمليات تزاوج بيني Interbreeding بين عدد من السلالات البشرية التي تخلقت من أسلاف ماقبل بشرية Hominids في غرب افريقيا مع بداية حقبة البلايستوسين. وأن هذه السلالات انتشرت عبر موجات متتابعة في إفريقيا ومن ثم إلى خارجها. وكان المتحكم في عملية الإنتشار عوامل عدة كالتقلبات المناخية والتزاحم على الماء والكلأ وغيرها مما سوف يدفع بأي كائن مهما كان متواضعًا للإنتشار. وبغض النظر عن سيناريوهات الإنتشار المقترحة سواء أكانت عبر فرضية الخروج من إفريقيا Out of Africa أو فرضية الأصل المتعدد للإنسان الحديث Multiregional origin of modern human أو وفق أي سيناريو آخر، فالمهم لدينا أن البشر ظهروا في فترة ما وتعرضت سلالاتهم الأولى لقوى الطبيعة في البيئات التي سكنوها فتشكلت صفاتهم الجينية بما يتلاءم مع تلك البيئات.

وأن هذه السلالات المتعددة وبعد أن تم لهم عمارة أغلب مناطق الأرض، وتقلصت الجغرافيا الفاصلة بينهم، فرضت عليهم الطبيعة أحد أهم شروطها، وهو الذي وصفناه بالتزاوج البيني الذي يقضي بأن يلتقي أفراد من هذه السلالات جنسيًا مع أفراد من سلالات أخرى، لينتج عن هذه اللقاءات هجائن عابرة للسلالات وحاملة للمكونات الجينية بحسنها وقبحها ويكونون مخزونًا جينيًا يستدعى منه الصالح للبيئات التي يقطنونها. وبتتابع هذه اللقاءات وعبر عشرات الآلاف من السنين أخذت هذه الفوراق في التقلص، بحيث ما تبقي منها اليوم لا يعدو الألائل التي لا تزال تحفظ للشعوب بعض الملامح الظاهرية. ومن المعيب أن يبني البعض على هذه الفوارق الظاهرية نماذج تراتبية طبقية بين البشر.

وقد أظهرت لنا علوم الجينات التي شهدت توسعًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وخصوصًا خلال العقد الأخير، مدى التداخل الكبير بين التحورات الجينية في كل منطقة جغرافية، بل وفي كل مدينة وقرية. ولذلك فإننا نلاحظ اليوم وجود تحورات لمجاميع جينية Haplogroups في سكان شبه الجزيرة العربية موصوفة لشعوب نزحت في فترات ميزوليثية ونيوليثية وبرونزية وقبلها وبعدها، من مناطق الشام وجبال زاغاروس والقوقاز وشمال إفريقيا وغيرها من مناطق العالم. والحال ذاته نراه في أوروبا وإفريقيا وآسيا، أما في الأمريكتين فحدث عن هذه التنوع ولا حرج.

ولكن المنادون بصفاء الأعراق لا تزال أصواتهم تصدح، ولا يزالون يتحلقون في تحزباتهم التي أصبحت تمثل لهم أيديولجيات يستمدون منها هوية مشوهة لا تتوافق مع عصرنا الحالي الذي يمضي في سيره متجاوزًا نماذجهم العرقية المختلقة. وظني أن الركب سوف يتجاوزهم ليصبحوا خلال عقود قليلة من آثار الأمس المتخلف.


 

الموضوع المترجم

الأيدولوجية اليمينية المتطرفة للبيض دعاة تفوق «سيادة» العرق الأبيض هي في ازدياد في أوروبا وأمريكا الشمالية «1» وأستراليا «2». هذه الايدلوجية تنسجم مع الفكرة العنصرية «3» حيث العديد من البيض دعاة تفوق العرق الأبيض يرون أنفسهم كأعضاء العرق ”النقي“ والذي هو عرضة لعملية تخفيف من نقائه وذلك بعد اختلاطه بعرق / بأعراق أخرى.

العلم لا يدعم فكرة الأعراق النقية ذوات الأصول القديمة. في السنوات القليلة الماضية، التسلسل الجيني للإنسان القديم والحديث والأنواع / الأجناس ذات العلاقة أعطانا طوفان من المعلومات الجديدة بشأن كيف تطورت المجتمعات البشرية.


 

الأدلة تكشف تاريخ الاختلاط الجيني الذي لا يزال قائمًا، بسبب التزاوج / التناسل بين مختلف المجموعات وحتى بين الأجناس. لدى البشر من مختلف المجموعات أطفال من بعضهم البعض، وحتى مع انسان النيدرتال وأفراد آخرين من أشباه البشر المنقرضين حاليًا «4».

هذا الاختلاط قد وقع بشكل مستمر على طول عملية الهجرة البشرية الطويلة في جميع أنحاء المعمورة. يقطن الأوروبيون في منطقة واحدة متكونة من سلسلة جينية متصلة continuum كبيرة، وهي ليست أكثر أو أقل نقاءً عن أي مجموعة بشرية أخرى.

من افريقيا الى بقية العالم

يبدأ التاريخ الجيني للبشرية «5» فيما نعرفه الآن بإفريقيا. إن الموقع الدقيق «أو المواقع» لأول إنسان حديث تشريحيًا محل نقاش، ولكن هناك إجماع على أنهم عاشوا جنوب الصحراء الكبرى بين 100 ألف و200 ألف سنة مضت.

هاجرت مجموعة أو مجموعات من هؤلاء البشر الأوائل من إفريقيا إلى الشرق الأوسط، كما نعرفه الآن، تقريبًا ما بين 50 ألف و70 ألف سنة. بعد ذلك، ذهب البعض شرقًا إلى آسيا، بينما اتجه البعض الآخر غربًا إلى أوروبا.

في مرحلة ما، التقى البشر الرحّالة وتزاوجوا / تناسلوا مع إنسان النيدرتال «6». هؤلاء أشباه البشر المنقرضون حاليًا قد غادروا إفريقيا منذ آلاف السنين.


 

لا يزال الآسيويون والأوروبيون المعاصرون يحملون البصمات الجينية لإنسان النيدرتال «7»، بينما لا يحمل أفارقة جنوب الصحراء الكبرى هذه البصمة.

كما التقى البشر الذين هاجروا شرقًا إلى آسيا أيضًا وتزاوجوا وتناسلوا مع أنواع منقرضة أخرى من أشباه البشر، بما في ذلك تضمينان رئيسيان [في البشر الحديث] على الأقل من الجينات من مجموعة يُطلق عليها انسان الدينيسوڤا Denisovans «انظر 8».

ڤيديو عن الهجرة والاختلاط عن طريق التناسل

https://www.cell.com/cms/10.1016/j.cell.2018.02.031/attachment/ec474062-b897-4adc-8cb5-6be53aa71c8d/mmc2.mp4

يكاد يكون من المؤكد أن البشر الحديث الأوائل قد تزاوجوا مع أشباه بشر قدامى آخرين منقرضين أيضًا، لأن التناسل بين الأنواع كان حينئذ شائعًا على الأرجح. تم مؤخرا اكتشاف بقايا فتاة من أم تنتمي الي إنسان النياندرتال وأب من انسان الدينيسوڤا «9». أظهرت دراسة حديثة أخرى أن بعض إنسان النياندرتال يحملون أيضًا آثارًا من الحمض النووي البشري «10».

التنوع الجيني يؤدي إلى لياقة أكبر

التنوع الجيني، كما يقاس بنظام مقياس يسمى تغاير الزيجوت «11»، يتناقص مع المسافة الجغرافية من أفريقيا «12». تغاير الزيجوت العالي مقترن عمومًا باللياقة الجينية الضرورية للبقاء على قيد الحياة.

من هذا المنظور، يمكن القول إنه عندما فقد البشر الذين ارتحلوا من إفريقيا التنوع الجيني من جراء العيش في مجموعات صغيرة، فقدوا أيضًا اللياقة الجينية. وبنفس الحجة، فإن التزاوج بين المجموعات يزيد من اللياقة الجينية.

في الواقع، ربما استفاد الأوروبيون من وراثة بعض حمض انسان النياندرتال النووي: يُعتقد أن هذه الجينات قد نوعت أجهزتهم المناعية «13» وربما ساهمت في لون بشرتهم الفاتح.

استمر البشر الذين هاجروا غربًا إلى أوروبا في الالتقاء والتزاوج / التناسل مع مجموعات بشرية أخرى «14».

موجة أخرى من البشر مما نسميه بهضبة الأناضول «تركيا الحديثة تقريبًا» أعقبت الانتشار الأولي للبشر في أوروبا. هاجرت جماعة اليمنايا «15» مما نعرفه الآن باسم السهوب الروسية غربًا إلى أوروبا ما بين 3 الآف و5 آلاف سنة مضت. في الواقع، لم يتبقَ سوى القليل من الآثار الجينية لأول سكان أوروبا، حيث حل مكانهم اخرون بشكل مستمر.

حتى الحضارة الرومانية، التي تعتبر أحد الأسس التاريخية للهوية الأوروبية، كانت موطنًا لتنوع جيني معتد به. نظرت دراسة حديثة «16» في جينومات 127 شخصًا من 29 موقعًا تغطي فترة زمنية مقدارها 10 آلاف سنة. ووجدت أن موجة أولية من الصيادين الجامعين قد حل محلها سكان الأناضول، وخلال عصر الإمبراطورية الرومانية «27 قبل الميلاد إلى 300 بعد الميلاد» كان هناك تضمين ذو دلالة لجينات من سكان ما يعرف الآن بإيران وشرق البحر الأبيض المتوسط.

حتى الفايكنغ كانوا متنوعين

يعتبر العديد من دعاة تفوق العنصر الأبيض أن الأوروبيين الشماليين ذوي الشعر الأشقر والعيون الزرقاء يمثلون النموذج العرقي الأعلى نقاءً. وزاد الفايكنغ من نقائهم الى الحد الأمثل تاريخيًا.

ومع ذلك، الواقع شيء مختلف. وجدت دراسة حديثة أجريت على 442 جينومًا بشريًا من المواقع الأثرية في جميع أنحاء أوروبا وغرينلاند أن سلالة كبيرة من أماكن أخرى في أوروبا دخلت الدول الاسكندنافية خلال عصر الفايكنغ «16». في الواقع، وعلى الأرجح فقد تميز الفايكنغ بشعر أسود أكثر مما نجده لدى الإسكاندانافيين المعاصرين

باختصار، فكرة العرق الأبيض النقي ليس لها أساس في علم الجينات. البشرة الفاتحة والشعر الأشقر والعيون الزرقاء والخضراء تُعتبر ببساطة تكيف مع مناخات شمال أوروبا «وتمثل تكيفًا أدنى في المناطق الاستوائية». توجد هذه الميزات في خلفية عدد لا يحصى من التأثيرات الجينية الأخرى الموروثة من العديد من المجموعات، القديمة والحديثة منها.