آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

وجوه لا تنسى.. الأمّي الذي كتب للمنبر الحسيني ”أبو الفقراء“ الحاج أحمد العوى

حسن محمد آل ناصر *

دق الباب استلمت ظرف! من المرسل؟! مجاهد في سبيل الله، كانت رسالة إلى أبي حفظه الله، أذكر ملامح ذاك الرجل كان بشوش الوجه علامة الوقار بائنة عليه، ربت على كتفي ورحل بعدما علم بأن الوالد نائم ”قيلولة“، سألت الوالد من يكون هذا الرجل الذي ملامحه لون طين أرض القطيف؟! رد متنهدا لعدم لقياه: أنه الحاج الأديب احمد العوى.

هذه أول وآخر مرة اراه فيها ولكن ثبت في الذاكرة لأن هؤلاء لا يمكن نسيانهم، كان بداخل الظرف ابيات قصيدة جديدة نظمها في حب آل البيت، ودائما وابدا يراسل رجال العلم وخاصة الخطباء لقراءة قصائده فوق المنابر الحسينية.

هو الحاج أحمد بن ملا عبدالله بن محمد بن سلمان بن الشيخ محمد بن حسين بن الشيخ عبدالله بن الشيخ علي بن محمد بن علي بن درويش البحراني البحاري الحريفي الخطي القطيفي المشهور بالعوى، ومولده صادف ميلاد الحسين ، حيث تولد في البحاري عام 03/08/1341ه، البلدة التي تقع بمحافظة القطيف وتبعد قرابة الثلاثة كيلو مترات من حاضرة القطيف ”القلعة“ تلك البلد التي تشتهر بوجود مسجد الشيخ عزيز وللشيخ الفاضل العالم كرامات وقصة لا مجال لذكرها الآن، وكما تشتهر البحاري بطيبة اهلها وكرمهم واريحية جوارهم فقد عرفناهم بقرب القديح منهم، وايضا تشتهر بالأزقة ”الزرانيق“ ومازالت هناك تلك الطلة التي تشعرك بالماضي الجميل.

عاش في كنف والدين كريمين تحليا بالإيمان الذي جعل منه رجل مؤمن طيب السريرة يرتاد المساجد والحسينيات ومجالسة الفضلاء واصبح من الرجال البارزين لعمل الخير والتسابق عليه وظهر هذا على شخصيته وحسن أخلاقه وجميل تربيته الصالحة، ولصعوبة ذاك الزمان انخرط في العمل حينما رأى والده يكابد الحياة ليأتي برزق عائلته، فراح يعمل معه بالفلاحة ليتحمل المسؤولية في سن مبكرة يحرث ويزرع ويسقي وكان عمره لا يتجاوز العاشرة حتى سنة «1363ه» اتجه لصيد الاسماك، حتى سنة «1367ه» عمل بائع فواكه وخضروات، حتى سنة «1381ه» ضم عمله السابق بالحملدارية سفر وزيارة للحرمين الشريفين والعتبات المقدسة، وفي سنة «1393ه» انزاح للأعمال الحرة.

الحاج العوى من الشخصيات التي يفتخر بها البلد فقد وضع لروحه بصمة لا تنسى بين المكان والإنسان، وحين تتبع حياته فأول إجابة تأتيك خادم العلماء والخطباء ودائما وابدا يقدم جل وقته وماله لخدمة طلاب العلوم الدينية في حوزة النجف الاشرف وحوزة قم المقدسة، واشتهر بوصف ”ابو الفقراء والمحتاجين“ فقد عرف عنه تقديم يد العون للشباب وتزويج الضعفاء منهم ومساعدة الأسر المتعففة.

رغم أنه أمّي لا يقرأ ولا يكتب فقد تفوق في نظم الشعر الشعبي والفصيح ويعتبر من ألمع شعراء الحسين بالمنطقة وخاصة القطيف، فقد كيفته البيئة التي احتضنته من افراد اسرة تواقة لرفع شعائر آل البيت وهذا ما كان له الدور البارز في تكوين حاسة نظم الشعر، وعلاوة على ما سبق يكمن في المحيط الخاص الذي احبه وهو مجالسة العلماء والادباء والشعراء والفضلاء، ومن ابرزهم على الصعيد العربي آية الله السيد محسن الحكيم «1889-1970»، وآية الله السيد ابو القاسم الخوئي «1899- 1992»، وآية الله السيد محمد باقر الصدر «1935- 1980»، وغيرهم من اعلام الدين في قم المقدسة وخاصة العلماء العظام في النجف الاشرف.

اما على الصعيد الاقليمي فاغلب العلماء والخطباء ورجال الدين يعرفونه ومنهم العلامة علي الجشي «1879- 1956»، وملا علي الطويل توفي عام 1434ه، والعلامة الشيخ فرج العمران «1903- 1978»، والعلامة الشيخ عبد الحميد الخطي «1913-2001» وغيرهم كثير من الاعلام والكتاب، وفي اعتقادي كان هذا الدور الاهم لصقل موهبة الشعر حتى الاحتراف في تكوين الشاعر وعمق احاسيسه.

كان له دور كبير في حفظ التراث الشعري الولائي حيث عكف على طباعته على نفقته الخاصة لكي لا يندثر ويصبح آثار كاتبيه في طي النسيان وكل هذا خدمة للإسلام والعقيدة، وهذا يدل على نظرته الثاقبة وايمانه بالعلم والعلماء وتخليد ذكرهم لأنهم دعائم الدين، ومن بين تلك النفائس الثمينة التي تحسب له لعدم ضياعها: «المجموعة الشعرية الكاملة للعلامة الجشي، ديوان الشيخ الدمستاني، ديوان ملا حسن بن ربيع القديحي ”الزهور“».

الامي الذي عرف كيف يوظف طاقته لخدمة أهل البيت بالشعر والقافية العذبة في الشعر النبطي والشعر الفصيح، كيف لرجل ينظم الكلمات التي بالكاد تصعب على المتعلم صفها وتطويعها؟! إلا أن الله راض عليه، هنا اخترت مقتطف بسيط من مقدمة ديوانه «محرك الاشجان في رثاء امناء الرحمن - المطبعة الحيدرية في النجف ”1962م -1381ه“» ان السبب الوحيد الذي دفعني والباعث الذي حثني على انشاد القريض وانشاء الشعر الدراج المختص بمدح آل الرسول ﷺ ورثائهم وأنا أمي صفر الكف من القراءة والكتاب، هو الحب والاعتقاد الممتزجان بلحمي ودمي لهم ، اذ انا أعتقد ان أفضل القربات الى الله عزوجل بعد الاخلاص لله تعالى بالتوحيد والعدل واعتقاد بأصول الدين وفروعه والقيام بالواجبات الشرعية هو التقرب الى رسول الله ﷺ نبي الرحمة بحبه لأهل بيته وبالفرح لفرحهم والحزن لحزنهم واظهار آثارهم وذكرهم واحياء أمرهم واقامة المآتم عليهم، كان عدد صفحات الديوان عندئذ «196» صفحة، وقد عيدت طباعته بعدما جمع فيه اغلب قصائده ليصل عدد صفحاته «576» صفحة في عام «1997م»، ويمتاز الديوان بمقدمتين لعلمين جليلين «الشيخ فرج العمران، والشيخ علي المرهون» احداها بالشعر والأخرى بالنثر، وقد اثنيا على الديوان وصاحبه.

انشد اول ابيات وهو يبلغ من العمر الخامسة والعشرون من الشعر الشعبي «النبطي» وهي:

هل المحرم واظلمت سبع السماوات

وصارت الصيحة اعلى الذبيح ابجنب الفرات

ظل الشهيد احسين مرمي ابغير تغسيل

راسه على الخطي وجسمه داسته الخيل

اولملاك في سابع سما اتعزي الجبريل

اوصار البكا والنوح في سبع السماوات

وفي نفس السن انشد الشعر العربي وكانت في رثاء الامام زين العابدين ومطلعها:

لبس الدين حلة من سواد

يوم قيد السجاد في الأصفاد

بأكف الطغاة من آل سفيان

أساس النفاق أهل العناد

وإليك عزيزي القارئ الرجوع لقراءة الديوان إذا اردت الزيادة، كانت قراءتي لهذه القصائد الولائية المبتدئة بوفاة الامام علي التي حركت الاشجان في خواطري، وكل قصيدة كان لها واقع التعرف على شجي عَبرة وعبرة عن درف دموع الاحزان بأسلوب الشاعر المتعمد احيانا واحيانا اخرى قد تكون الابيات عفوية والعفوية في حد ذاتها سلسلة من دمج الروح مع الأحزان.

فيجدر بنا نحو هؤلاء الشعراء الذين بذلوا حياتهم لخدمة المذهب أن نقف بفخر واعتزاز بإنجازاتهم على هذا المستوى الرفيع من العلم والعمل ويستحق أن يذكر ويشار له ولو بلمحة بسيطة عن حياته وعمره الذي بالإمكان تحويله إلى قصة بطولة أو فلم سينمائي لكي لا يدفن النسيان ذاكرة هذه الشخصيات الفذة.

جاء نداء الله للحاج المؤمن احمد بن عبد الله العوى البحاري القطيفي لترفرف روحه في صباح يوم الخميس المصادف 18111420ه لخالقها بعد معاناة مع المرض الذي لازمه أكثر من ثلاثة أشهر قضى نصفها بمستشفى القطيف المركزي والأخرى في مستشفى المواساة بمدينة الدمام، وقد شيع تشييع يليق بمكانته حيث خرج جمع غفير لتوديعه إلى مثواه الأخير من حسينية العوامي بالقطيف، فرحمة الله رحمة الابرار واسكنه الله فسيح جناته في العليين مع محمد وآل محمد.