الإسلام والمدينة.. من منظورات استشراقية
اعتنى المستشرقون الأوروبيون بدراسة العلاقة بين الإسلام والمدينة، الإسلام بوصفه دينًا وعقيدة، والمدينة بوصفها تمدنًا وعمرانًا، وحضرت هذه القضية وتباينت حولها وجهات النظر في كتاباتهم ودراساتهم الدينية والفكرية والتاريخية والجغرافية.
وما كان بالإمكان أن تغيب هذه القضية المهمة عن اهتمامات المستشرقين واشتغالاتهم البحثية والتنقيبية، وهم المعروفون بتقصيهم الشديد، وولعهم بمختلف الظواهر في حياة الشرق والشرقيين، سواء كانت هذه الظواهر صغيرة أو كبيرة، ظاهرة أو خفية، مهمة أو هامشية.
بين المستشرقين من يرى علاقة الإسلام بالمدينة، وأن الإسلام كان باعثًا للتمدن ونهضة المدن، متخذين من جغرافيا المدن الإسلامية شاهدًا ودليلا، وبين من يرى خلاف ذلك نافيًا أثر الإسلام في تكوين المدينة ونهضتها.
سوف نعرض لهذه القضية متتبعين جملة من الآراء ووجهات النظر تحسب على هذين الطرفين المتغايرين، بيانًا لطبيعة المنهج وطريقة التفكير المتباينة عند هؤلاء المستشرقين، وفي المعرفة الاستشراقية عامة.
من الذين يرون هذه العلاقة وتأكيدها المستشرق الأمريكي النمساوي الأصل جوستاف جرونيباوم «1327 - 1392 هـ /1909 - 1972م» صاحب كتاب: «حضارة الإسلام»، فقد ذكر فيه أن الإسلام كان «منذ مستهل نشأته في وسط حضري يستحب عمران المدن وتقدمها، ولو تأملت تشريع القرآن لرأيته يتمثل صورة لحياة المدن، فالبدوي ينظر إليه بعين الإرتياب وعدم الثقة... وحيثما حل الفاتحون المسلمون أسسوا المدن، إذ كيف يستطاع تأدية شرائط الدين على وجهها ما لم يكن ذلك في مدينة... وكانت الهجرة إلى المدن من الأمور المستحسنة والمستحبة».
وتمسكًا بهذا الرأي خطأ جرونيباوم رأي المفكر الألماني ماكس فيبر «1864 - 1920م» الذي جعل للمدينة في الإسلام أهمية سياسية لا غير، منتقصًا من رؤية الإسلام تجاه المدينة، مفاضلا عليها الرؤية اليهودية والمسيحية، وقد شرح جرونيباوم رأيه المغاير قائلا: «يخطئ ماكس فيبر عندما يجعل للمدينة في الإسلام أهمية سياسية لا غير، مباينًا بين الإسلام في هذه الناحية وبين اليهودية والمسيحية بوصفها حملة اتجاه ديني يدعو بوجه خاص إلى سكن المدن».
وفي هذا النطاق كذلك، وبدرجة الوضوح نفسها جاء موقف المستشرق الفرنسي موريس لومبارد «1904 - 1965م» الذي اعتنى بهذه القضية في كتابيه البارزين هما: كتاب «العصر الذهبي للإسلام»، وكتاب: «الجغرافية التاريخية للعالم الإسلامي خلال القرون الأربعة الأولى»، إذ يرى أن الحضارة الإسلامية هي حضارة مدينية، وحسب قوله: «إن أولية المدينة في العالم الإسلامي ما بين القرن الثاني وحتى الخامس الهجري - الثامن حتى الحادي عشر الميلادي -، ظاهرة ثابتة ورئيسة للحقبة التي ندرس، فمن سمرقند إلى قرطبة كانت الحضارة الإسلامية حضارة مدينية تتميز بوحدتها... وهكذا كان العالم الإسلامي يبدو كسلسلة من الجزر المدينية المرتبط بعضها مع بعض بخطوط تجارية، ولكن الأزمات والاضطرابات وغزوات النصف الثاني من القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، من الشرق والغرب، وجهت ضربة قاصمة لهذا التنظيم المدني الجميل، وأدت إلى انقطاع تواصل التيارات التجارية الكبرى مما سبب انحطاط المدن».
وتناغمًا مع هذا الموقف وتأكيدًا له، يرى المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل صاحب كتاب: «الإسلام وحضارته» أن الإسلام خلق العديد من المدن بنوع من النهم، وترك بصمته عليها، وتم إنشاؤها ببراعة، معتبرًا أن «هذه المدن تمثل في نفس الوقت أماكن للإنتاج والإستهلاك والتبادل، ودعائم للمال والسياسة والفنون والآداب، وإن لم يكن الإسلام قد خلق إلا القاهرة وبغداد فإن هذين الاسمين يكفيان لتكوين مجده العظيم. وما الذي يمكن أن نقوله عن مدينة فاس والقيروان والبصرة التي ولدت في ظل الإسلام، مع العديد من المدن الأخرى، وما الذي يمكن أن نقوله عن كل تلك المدن التي تولاها ليخلق منها العواصم مثل: قرطبة وتونس ودمشق وبخارى وسمرقند ودلهى! وهكذا ترتسم المعالم الأساسية لخريطة الإسلام، وتحمل الخريطة معالم العالمين، الحضر والرحل، في شيء من التوازن وإن لم يكن شديد الثبات، فالمدينة كمركز للحضر الثابت تناقض بكتلتها ومؤسساتها وثقافتها تحرك الصحراء».
وفي كتابه الآخر الموسوم بعنوان: «الجغرافيا البشرية للعالم الإسلامي حتى منتصف القرن الحادي عشر» الصادر في ثلاثة أجزاء خلال الفترة ما بين 1973 - 1980م، رأى ميكيل «أن الجغرافيا العربية الإسلامية تبقى أساسا جغرافيا حضرية، ربما لأنها جغرافيا موظفين ومتأدبين وتجار، ولا اهتمام لها بالتالي بالبوادي ولا بالطبقات الاجتماعية الدنيا».
في مقابل هذه الآراء الجازمة والمتواترة، هناك في الطرف الآخر بعض الآراء الناقضة والنافية لدور الإسلام في نهضة المدن وقيامها وتمدنها، وفي هذا النطاق تأتي آراء المستشرق الفرنسي كزافييه دي بلانهول «1926 - 2016م» صاحب كتاب: «الأسس الجغرافية لتاريخ الإسلام»، إذ يرى أن الإسلام لم يكن مشجعًا أو دافعًا إيجابيًا لحركة التمدن، نافيًا أثر الإسلام في تكوين المدينة، بل على العكس في نظره فإنه بإحلاله بعض الطوبغرافيات يكون قد دمر شكلها القديم وهيئتها الموحدة فجاءت النتيجة عكسية من وجهة نظر التقدم، كما يعتقد أن الإسلام لم يفلح في أن يأتي بالبديل للمدن التي خضعت للفتح، وكانت قد ورثت تقدمًا متماسكًا قديمًا، بل أنه قد قلد تلك المدن الموجودة.
وتوافقًا مع هذا الرأي وتناغمًا معه، يرى الكاتب الأمريكي ميسون هاموند أن الحضارة الإسلامية كانت ضد حركة التمدن، وأن الإسلام قد اعتبر المدينة مجرد وجود ديني لا سياسي.
من جهته حاول المستشرق الفرنسي الماركسي كلود كاهين «1909 - 1991م» صاحب كتاب: «مقدمة لتاريخ العالم الإسلامي في القرون الوسطى» أن يسلب سمات المدينة الإسلامية وهويتها، رابطًا سماتها بسمات المدينة الأوروبية تبعية وتقليدًا، وحسب قوله: إن الكثير من سمات ما يسمى بالمدينة الإسلامية هي صفات وسمات المدينة البيزنطية والوسيطة، وصفات المدينة الإيطالية في القرن الحادي عشر الميلادي.
هذه بعض الآراء المؤيدة لعلاقة الإسلام بالمدينة وجودًا وتكوينًا، تمدنًا وعمرانًا، وبعض الآراء النافية لها والمعارضة، والأظهر أن موقف أصحاب الاتجاه الأول الداعمين لدور الإسلام في تكوين المدينة ونهضتها، هو الأكثر موضوعية ومصداقية ومطابقة للواقع التاريخي.
وعمران المدن الإسلامية وازدهارها على امتداد جغرافيا العالم الإسلامي يظل شاهدًا على ذلك، وداحضًا مواقف أولئك النافين أو المشككين الذين لا تخلوا آراؤهم من تحيز وتعال، ويصدق عليها ما يصدق على المعرفة الاستشراقية المحضة من أحكام وموازين تجانب العدل والإنصاف.
وبات من الواضح عند العارفين للمعرفة الاستشراقية والناقدين، أن من أوضح سماتها الكاشفة عنها والدالة عليها والثابتة فيها هي إعطاؤها لنفسها صفة الأصل ومرجعية الأصل، وما سواها هي فروع وهوامش، ويتبين ذلك من خلال البحث والتفتيش والتنقيب عن جذور غربية للظواهر الأخرى المنسوبة للمجتمعات غير الأوروبية، كالذي حدث مع الظواهر الإسلامية وشملت ميادين الدين والفقه والفلسفة والفن والعمارة، وامتدت إلى المدينة وغيرها، كل ذلك من أجل طلب السيادة، وتعزيز التفاضل، وبسط الهيمنة.