الفرد في فكر الجماعة
اختلافك أي يكن شكله، ومع أي شخص يكون، لا يبرر مشاعر الكراهية تجاه الآخر المختلف معك، ومهما تكن مكانتك العلمية أو الاجتماعية، فإن ذلك لا يدفعك للتعامل معه بخصومة حاقدة للنيل من مكانته أو التقليل من شأنه، لا لشيء غير أنه يختلف معك في الفكر أو المعتقد أو في مشاعر الانتماء لجماعة ما.
ولعل ما ينبغي وعيه أن الاختلاف في حد ذاته ليس إساءة أو إهانة بقدر ما يعني أنه حقيقة إنسانية وسنة كونية مما يحتم التعامل معها بالتسامح والقبول بها كحالة صحية متسقه مع الطبيعة الإنسانية والدينية ﴿ولو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالونَ مُختَلِفينَ*إِلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُم﴾.
إن التعبير عن الانتماء حق من حقوق الأفراد، وهو يمثل مطلبا حيويا وأساسيا في استقرار الفرد وقوته، فلا يحق لأحد سلبه أو حرمانه منه.
إن انتماء الفرد للجماعة ليس بالضرورة أن تكون أفكاره وقناعاته متطابقة مع الجماعة، ولا يعني مخالفته لها خارجا عليها، أي لا يعني أن ولادته في بيئة ثقافية معينة وضمن سياق اجتماعي وروابط متخيلة، أن تتطابق أفكاره وميوله مع جميع أفراد جماعته؛ لأن الفرد بالعودة لأصالة هويته قادر على فك هذا الارتباط وعلى اختيار ثقافات أخرى تختلف عن تلك التي ولد فيها.
إنما يؤسف عليه أن المجتمعات المحافظة والمنغلقة ولكي تحافظ على هويتها من حتمية الاندماج مع الثقافات الأخرى، تعمل بشكل فيه من التعصب والتشدد إلى دعوة أفرادها بعدم الانفتاح على الجماعات الأخرى، ولا ينتهي بها إلى هذا الحد بل تعمل على إحاطة أفرادها بأسوار يصعب عليهم مرونة التواصل وسهولة الاندماج مع الثقافات الأخرى، وقد يصل بها الحال في نهاية المطاف إلى إخراج أي مختلف عنها خارج تلك الأسوار بمهاجمته وعزله ﴿أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾.
من هنا قد تتبادر إلى الذهن العديد من التساؤلات حول قيمة الجماعة وأهمية الانتماء إليها، وحول الفرد وصناعة هويته، فهل من الأصالة في شيء التطابق الكلي مع الآخرين في أفكارهم ومعتقداتهم أو محاكاة حياتهم سواء كان الفرد عضوا في إحدى الجماعات أو خارجها؟
وهل الانخراط في هوية جماعية يتطلب أن يتنازل الفرد عن جزء بسيط من أصالته حتى يتبادر إلى الذهن أنه نسخة متطابقة مع الهوية لتلك الجماعة أو ذلك المجتمع؟
ما المشكلة أن تكون هناك آراء مختلفة غير تلك السائدة؟ لماذا الخوف من طرح قضايا تحتمل آراء متعددة لاجتهادات مختلفة؟
أين يكمن خلل ذلك، هل هو الخوف على الهوية أم الخوف من تحريك الساكن أوالمسكوت عنه في دفائن العقول؟
وهل لحركة الزمن وبما يحتضنه علاقة في إعادة نمط التفكير في كل شيء يرتبط بحياة الفرد أم أنه ينبغي الانصياع لما حكم له القدر؟
إن الاحتكام لرأي واحد في أي قضية تحتمل آراء أخرى تمثل نوعا من الإقصاء والارهاب الفكري الذي يقطع الطريق من الاستفادة من المعارف الإنسانية التي توصل لها الآخرون.
ويشكل إلزام الجماعة أفرادها بصيغ معينة خاضعة لسيطرتها ورغبتها مما يصعب التعامل بمرونة مع كل الآراء المتعددة؛ كونهم ينظرون إلى آراء الجماعة نظرة المسلمات، وهي النظرة التي جعلت من الفرد ذائبا ومتأثرا بروح الجماعة، فارضة عليه الالتزام بقيمها ومبادئها والتي تتحول بعنصر الزمن إلى معتقدات وواجبات ينبغي العمل بها.
إن هذا الفرض دفع بالفرد لتعميق الإحساس بقيمة الجماعة وتعزيز مركزيتها على حسابه، مما شكل عقدة في داخله تجاه الجماعات الأخرى بتنوعاتها المختلفة وجودا وعطاء، من هنا يفقد أولئك الأفراد حقيقة الاعتراف بقيمة التنوع البشري والاندماج الحضاري مع المكونات البشرية الأخرى.
إن الجماعات مطالبة اليوم بزيادة الوعي بقيمة التنوع الفكري والديني في أذهان أفرادها، باعتبارها ركيزة أساسية في التنمية الانسانية والحضارية؛ إذ إن المدخل الصحيح للخروج من أزماتنا بأشكالها المختلفة ليس بإبادة هذا التنوع أو بالترويج لفكرة أنه سبب لتنامي حالة التفكك والانقسام المجتمع وانفصال أفراده عن بعضهم البعض، بل ينبغي التأكيد على أن التنوع حاجة إنسانية حيوية لا رغبة بشرية عابرة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
من هنا لا بد من التأكيد على أننا نتشكل من خلال التواصل مع الآخرين والحوار معهم، لهذا نحن بأمس الحاجة إلى الأعتراف بهم، بقدر مايحتاجون هم إلى الاعتراف بنا أيضا.