مقولة ”الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام“.. فحص وتحليل
في كتابه الشهير «تجديد التفكير الديني في الإسلام» الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1930م، أطلق الدكتور محمد إقبال «1294 - 1357 هـ /1877 - 1938م» مقولة مهمة من الناحيتين البلاغية والفكرية، اعتبر فيها أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام، واكتسبت هذا المقولة قدرا من الاهتمام عند بعض الكتاب والباحثين العرب والمسلمين، وحتى عند بعض المستشرقين الأوروبيين التي وردت هذه المقولة وترددت في كتاباتهم ودراساتهم.
وحين توقف الشيخ مرتضى المطهري «1920 - 1979»، أمام هذه المقولة التي أثارت انتباهه بشدة، وترددت في كتاباته ومحاضراته، واستند إليها في تأكيد العلاقة بين الإسلام ومتطلبات العصر من جهة، وفي نقد الأفكار والمفاهيم الجامدة والقشرية من جهة أخرى، واتخذ منها أساسا للحديث عن الاجتهاد في محاضرة له بعنوان: «الاجتهاد والتفقه في الدين»، نشرت في كتابه «الإسلام ومتطلبات العصر»، فبعد أن افتتح الحديث عن هذه المقولة، وتطرق إلى أهمية موضوع الاجتهاد، خلص في نهاية الحديث إلى اعتبار أن الاجتهاد من معجزات الإسلام، لأنه جعل الإسلام قادرا على مواصلة دربه، وديمومة حركته من دون أن يكون هناك تعارض أو تضارب مع قوانينه وقواعده الثابتة.
وذكر الباحث والأكاديمي الباكستاني الدكتور فضل الرحمن «1919 - 1988م» في كتابه «الإسلام وضرورة التحديث»، أن إقبال تخلى عن فكرة كتاب حول الاجتهاد كان يزمع تأليفه، وذلك بعد نصيحة سمعها من السيد سلمان الندوي، ويرى فضل الرحمن أن إقبال كان يستمع بعض الأحيان إلى مشورة العلماء، بل ويطلبها.
ومن المستشرقين الذين توقفوا أمام هذه المقولة المستشرق البريطاني هاملتون جيب «1313 - 1391 هـ /1895 - 1971م» في كتابه «الاتجاهات الحديثة في الإسلام»، الذي ربط هذه المقولة بحدث إغلاق باب الاجتهاد، وحسب رأيه أن إغلاق باب الاجتهاد، وضع حدا فعالا لمبدأ الحركة في الإسلام.
هذه المقولة منذ أن تعرفت عليها استوقفت انتباهي كثيرا، وطالما تأملت فيها فحصا وتبصرا، ورجعت إليها مرات عدة، وظلت حاضرة بصور متعددة في خطابي الشفهي والمكتوب، ودائما ما كنت اضعها في دائرة العناية والاهتمام، وأبرز أهميتها وقيمتها، لكونها من المقولات الجادة، وتختزل بنية دلالية وتفسيرية مهمة، وبحاجة إلى تعرف واكتشاف.
ولم أجد في حدود متابعاتي من تعامل مع هذه المقولة بهذه الطريقة الفاحصة، وبهذا النمط من الأفق المثير للدهشة، فقد ظلت هذه المقولة مجرد عبارة يجري تداولها بصورة عادية وساكنة، حالها حال العبارات العادية الأخرى، التي تكون خالية من قوة المعنى، وتخلق المضمون، وبعيدة عن الفحص والتبصر.
وعند النظر في هذه المقولة فحصا وتبصرا، يمكن الكشف عن العناصر والأبعاد الآتية:
أولا: في هذه المقولة استعمل إقبال مفهوم الحركة، ولعله يقصد به المعنى الذي يعطى له في الفلسفة، ويراد منه انتقال الشيء من القوة إلى الفعل على سبيل التدرج، وهذا المعنى يمكن أن يتصل بعملية الاجتهاد في مرحلتين متتاليتين، مرحلة اكتشاف المفهوم من النص، ومرحلة ربط المفهوم بالواقع.
في مرحلة اكتشاف المفهوم، يراد من معنى الحركة عملية انتقال المفهوم من باطن النص وهي وضعية القوة، إلى خارج النص وهي وضعية الفعل، بمعنى أن استنباط المفهوم من النص واستخراجه وتوليده ليكون ظاهرا وحاضرا ومتحققا، بحاجة إلى حركة يحصل من خلالها انتقال الشيء من القوة إلى الفعل.
وفي مرحلة ربط المفهوم بالواقع، يراد من معنى الحركة عملية انتقال المفهوم من حيز النظرية وهي وضعية القوة، إلى حيز التطبيق وهي وضعية الفعل، وإعطائه إمكانية التحقق الفعلي، لكن ليس بطريقة فورية أو في دفعة واحدة، وإنما على سبيل التدرج وفق قاعدة مقتضيات الزمان والمكان والحال.
ثانيا: جاءت هذه المقولة وكونت علاقة بين الاجتهاد والحركة، فالاجتهاد هو مبدأ هذه الحركة، بمعنى أن يتقدم الاجتهاد على الحركة ولا يتأخر عنها أو ينقطع وينفصل، وأن لا تتقدم الحركة على الاجتهاد وتسبقه أو تنقطع عنه وتنفصل، فلا اجتهاد بلا حركة، ولا حركة بلا اجتهاد.
ولا قيمة لاجتهاد بلا حركة، ولا قيمة لحركة بلا اجتهاد، فالاجتهاد بلا حركة هو اجتهاد بلا أثر أو تأثير في الواقع الخارجي، فهو أشبه بعلم بلا عمل، ويمكن اعتباره اجتهادا معطلا أو اجتهادا مجمدا أو جامدا أو معاقا إلى غير ذلك من أوصاف تتصل بهذا المعنى.
وحركة بلا اجتهاد هي حركة من دون مبدأ يعطي صفة المعنى للحركة وصفة المضمون والغاية والحكمة، فهي أشبه بعمل بلا علم، ويمكن اعتبارها حركة بلا معنى، ومآلها ومصيرها أقرب إلى الفوضى والفشل.
ومن هذا المعنى، يتولد مفهوم الاجتهاد المتحرك في مقابل الاجتهاد الجامد أو الساكن، والأصل في الاجتهاد أن يكون متحركا، ولا معنى لاجتهاد جامد أو ساكن أو غير متحرك.
ثالثا: إن هذه المقولة ناظرة إلى علاقة الاجتهاد بالزمن، وذلك من جهتين، جهة تتصل بمفهوم الاجتهاد، وجهة تتصل بمفهوم الحركة، من جهة الاجتهاد فإن حكمته وفلسفته تتصل أساسا بالمواكبة والمتابعة والملاحقة والمواصلة وغيرها من الافعال التي لها علاقة بمفهوم الزمن، فالاجتهاد بهذا المعنى يعني امتلاك القدرة على مواكبة الزمن، وتجدد الحياة، وتغير الواقع، وتبدل الحال، وغيرها من العناوين التي لها علاقة بمفهوم الزمن.
ومن جهة الحركة، وذلك لكون أن الزمن هو حركة وحركة مستمرة، والاجتهاد هو مبدأ هذه الحركة.
ويرتبط بهذا المعنى في المجال الفقهي، ما يراه البعض من أن الاجتهاد الحقيقي مجالاته هي القضايا والموضوعات الجديدة والحديثة، وهذا هو المجال الحيوي للاجتهاد، ولا معنى للاجتهاد في الانشغال بالقضايا والموضوعات القديمة والماضية، أو القضايا والموضوعات المستهلكة بحثا ونظرا، ولا حتى القضايا والموضوعات الباردة والجامدة التي استقر عليها الرأي وثبت.
رابعا: إن هذه المقولة تقرب العلاقة بين الحداثة والاجتهاد، من جهة أن الحداثة هي مبدأ الحركة في الثقافة الأوروبية الغربية، في حين أن الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الثقافة الإسلامية، والبحث عن الحداثة في الثقافة الإسلامية هو بحث عن مبدأ الحركة في الإسلام، والذي حدده إقبال في الاجتهاد.
وهذه الفكرة من الأفكار التي أوصلتني إلى اعتبار أن الاجتهاد هو المفهوم الذي يعادل أو بإمكانها أن يعادل مفهوم الحداثة.
أظن أن هذه العناصر والأبعاد تضع مقولة إقبال في دائرة التفكر وإثارة الدهشة.