من الذي يستطيع أن يصبح مثل العقاد؟
مثل الأديب المصري الكبير عباس محمود العقاد «1306 - 1383 هـ /1899 - 1964م» حالة فريدة، وتجربة نادرة قل نظيرها، ليس في تاريخ الأدب المصري والعربي الحديث فحسب، وإنما في تاريخ الأدب الإنساني الحديث، تجربة ظلت وما زالت تثير الدهشة والإعجاب لكل من يقترب منها، ويتعرف عليها، ويتواصل معها، فالعقاد يذكرنا بأؤلئك الذين نصفهم بالنوابغ والعباقرة، وهو صاحب العبقريات التي اشتهر بها، وعرفت بعبقريات العقاد.
لقد أحسن العقاد كثيرا حين كان أستاذا لنفسه، فأصبح أفضل أستاذ تعلم منه العقاد، وعلى يديه تخرج طالبا نجيبا ومتفوقا، ولا شك أن أفضل أستاذ حين يكون الإنسان أستاذا لنفسه، فهو أبصر بنفسه، وليس هناك من البشر من هو أبصر من الإنسان على نفسه، مصداقا لقوله تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ - سورة القيامة: 14 -
وليس في سيرة العقاد أستاذ غير العقاد نفسه، فكان أفضل أستاذ لنفسه، كما كان أفضل تلميذ تعلم من أستاذه.
وصف العقاد حياته بحياة قلم، وله كتاب بهذا العنوان، وليس هناك أصدق من هذا الوصف انطباقا على سيرة العقاد وتجربته، فحياته قد اصطبغت بالقلم أكثر من أي شيء آخر، وبالقلم عرف العقاد، وأصبح العقاد هو العقاد الذي يعرفه العالم، فقد قيل إنه صنف ما يزيد على مائة كتاب في مختلف صنوف المعرفة، ونشر ما يقارب خمسة عشر ألف مقال، وكانت له طريقته الخاصة في الكتابة التي تجلت في جميع مؤلفاته تقريبا، وأصبحت تعرف عند الكتاب والنقاد بأدب العقاد.
جعل العقاد من نفسه صاحب حكاية لا يتوقف الحديث عنها، حكاية طالما وجدت فيها ما يثير الدهشة، تجذبني للاقتراب منها، بحثا عن العقاد الذي من الصعب أن يتكرر إلا نادرا، فقد صعب العقاد على الآخرين تقمص سيرته، وتمثل حكايته، واقتفاء أثره، حين جعل من حياته حياة قلم، قلم لا ينازعه شيء ولا يتفاضل عليه شيء من شؤون الدنيا ومتاعها وزخرفها، فالقلم كان محور حياته، ويا له من قلم فقد كان بديعا ورائعا.
والسؤال كيف أصبح العقاد بهذه الحكاية، وبهذه السردية التي كسبت وتكسب الدهشة والإعجاب، وجعلت منه اسما حاضرا في الذاكرة الإنسانية وعصيا على النسيان، فمؤلفاته تتوالي في الطباعة بلا توقف أو انقطاع، ولا تكاد مكتبة خاصة أو عامة تخلو من أحد مؤلفاته، ونادرا ما نجد أحدا من الكتاب يجاهر بالقول ما قرأت للعقاد!
لا شك أن العقاد نسج هذه الحكاية المدهشة، بجهده وكدحه وصبره في طريق المعرفة الطويل، إذ مثلت المعرفة شغلة الشاغل، وهمه الأكبر، ولونت تفاصيل حياته اليومية، وظل وفيا لهذه المعرفة، لا يحيد عن دربها، ولا يتوقف عن الاستزادة منها، وبقي شغوفا بها، بذل لها كل ما يملك من وقت وطاقة، وأعطته أثمن شيء حصل عليه، فقد أعطته مجدا وبقاء لا يمحى في التاريخ.
من اللمحات المهمة في هذه الحكاية بناء وتكوينا، ما أشار إليه العقاد متحدثا عن فلسفته في الحياة قائلا: أما فلسفتي في الحياة فأهم جانب من جوانبها، قلة الاكتراث للمقتنيات المادية، فأعجب شيء عنده هو تهالك الناس على اقتناء الضياع والقصور وجمع الذخائر والأموال، ولم يشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال، ولم يشعر قط بصغره إلى جانب كبير من كبراء الجاه والثراء، ويعتقد أن نابليون مهرج إلى جانب العالم باستور، والإسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس.
وقد عرف العقاد بنهمه إلى المعرفة وتحدث عن ذلك بقوله: المقياس الواحد الذي أقيس به جهدي في جميع أدوار حياتي هو النهم إلى المعرفة، فإنني لا أذكر سنا لم أكن فيها أحب أن أعرف، وأن أقرأ وأن أختبر، وأن أفيد من كل ذلك توسعة في آفاق الشعور، صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم تخيلني في بعض كتبه قد دخلت الجنة، وذهبت أطوف في أرجائها عسى أن أرى وجهة مكتبة أقف أمامها، وأتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال بي المطاف، ولم أجد مكتبة ولا كتبا ضجرت منها، وطفقت أقول: ما هذا؟ جنة بغير كتب؟.
ويعقب العقاد على هذا الكلام قائلا: صديقنا الحكيم لم يبالغ في تخيله، لأنني فعلا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها.
وحين تساءل العقاد: لماذا هويت القراءة؟
أجاب بقوله: أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحد لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة، والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد، لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب، فكرتك أنت فكرة واحدة، شعورك أنت شعور واحد، خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك، ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك، فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين، أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين، وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد.
هذه البعض اللمحات التي تكشف كيف أصبح العقاد عقادا! وكيف أصبح صاحب حكاية ظلت تثير الدهشة والإعجاب، لكن من الذي يقوى أن يعيش عيشة العقاد، ويحيا حياته، ويكدح كدحه، ويصبر صبره، ويزهد في كل شيء إلا من المعرفة، وسيظل السؤال مطروحا: من الذي يستطيع أن يصبح مثل العقاد؟