فرحة نزول المطر وذكريات ”زمان أول“
الغيوم التي تتزين بها السماء مع بداية موسم المطر تكون حدثًا مفرحًا يشرح الصدر، ونزول المطر يدخل البهجة والسرور على قلوب البشر جميعًا أينما كانوا، ومنذ أمس هطلت أمطار الخير والرحمة على بلدتي ”جزيرة تاروت“ كما هي في الكثير من مدن وطننا الغالي.
ويا لها من رائحة طيبة تلك التي تحملها الأمطار، رائحة تعيدني إلى ذكريات ذاك الماضي الجميل الذي عشنا تفاصيله في أيام المطر داخل بيوت متواضعة معظمها مبنية من سعف النخيل «العشيش»، عشنا فيها البساطة وتجاوزنا قسوة الظروف في أيام المطر رغم قسوة أيام الشتاء وصعوبتها، اجتزنا تلك المراحل وحملنا ذكريات جميلة لا تُنسى.
مع نزول المطر صباحًا وقفت أمام البيت لكنني لم أرَ طلاب المدارس يعبرون الطريق إلى المدرسة، ولم أرهم داخل الباصات المريحة التي تأخذهم من أمام البيوت، فدخلت البيت وعرفت بأنه قد تم تُعلَّق الدراسة حضورياً، وفي المساء رأيت معظمهم يحمل مظلات يحتمون بها من المطر رغم أنه كان خفيفًا مقارنةً بأيام المطر في الماضي، فتوقفت قليلًا وهنا أخذني الحنين إلى أيام الطفولة والصبا، وتذكرت طفولتنا في أيام المطر ونحن نمشي إلى المدرسة على طرق ترابية وعرة لا نضمن وصولنا إليها سالمين.
تذكرت الأيام التي كانت فيها الأمطار تهطل بغزارة لكنه لم تُعلَّق الدراسة ولم تمنعنا من الذهاب إلى المدرسة، بل كنا نقطع المسافات إليها بين البساتين، والكثير منا يرتدي ملابس لا تقي من البرد، وأحذية أقدامنا لا تقاوم قساوة الأرض، وهذه كانت أقدارًا كتبها الله لنا في زماننا وعشناها بصبر ورضا، وكنا نعود إلى بيوتنا وأجسادنا مبللة بالكامل، فنقف في طريقنا قرب شجرة من كرب النخيل أشعلها الفلاح للتدفئة فنحتمي بها من سطوة البرد وننشّف ثيابنا المبللة.
تذكرت أيام الطفولة مع زملائي في البلدة عندما ينزل المطر، كنا نلعب حول مستنقعات المطر ونسبح في مجرى ماء عين العودة ونلعب ألعابنا الشعبية، كانت حياةً جميلة بلا وسائل راحة ولا أعمدة إنارة تشكل خطرًا علينا في أيام المطر، لكننا كنا نعيش مرتاحي البال؛ لا نفكر بمال ولا جاه ولا حتى منصب في جمعيتنا الخيرية، وربما كان أكبر طموحنا هو الحصول على شهادة دراسية تمكننا من الحصول على وظيفة تفتح لنا بابًا لمستقبل أفضل.
انتهت أيامنا الحلوة وما ظني أن أتعود، أيام قضيناها بين برد الشتاء وحرّ الصيف، نعيش في بيوت بسيطة تحمينا من تقلبات الطقس، أبوابها مفتوحة طوال النهار تُغلق ليلًا خوفًا من الحيوانات المفترسة، كانت بلا مغريات ولا كماليات، وكانت العائلة كلها تنام في غرفة واحدة، حتى وإن امتلكت أكثر من غرفة فلن يكون نصيبك غرفة مستقلة فيها كل المغريات كما هو حال أولادنا اليوم، وهناك منقلة واحدة يجتمع حولها الجميع للتدفئة أيام الشتاء.
ختامًا: ما أجمل المشهد في الماضي حين ترى المطر ينساب والقطرات تتجمع في مجرى ماء ”عين العودة“ الذي يسقي النخيل والأشجار، وكأنها تزف البشرى للفلاح وتقول له سنحوّل لك الأرض من جرداء إلى خضراء، لكنها اليوم تجمعت في بعض شوارعنا وأمام الكثير من منازلنا وأتعبتنا في الدخول والخروج منها وإليها.













