المراهقة الإدارية... إدارةُ بعقلٍ لم ينضج
يُقال إن الإدارة هي الوسيلة، وإن القيادة هي المُلهِم، وإنّ الهدف هو شحذ الجهود للوصول إلى الإنجاز، وبهذا يكتمل المشهد، وتستقيم المنظومة، غير أن هذه المنظومة لا تنهار دفعة واحدة، بل تبدأ بالتفكك بصمت عندما تتسلّل إليها ظاهرة شديدة الخطورة هي ”المراهقة الإدارية“.
تلك الظاهرة التي تُعد من أخطر أسباب تعثّر المؤسسات، إذ تُنتج نجاحًا شكليًا، وفشلًا عميق الجذور، واستبدادًا ناعمًا يُمارس تحت غطاء التنظيم، في حين أن جوهرها الحقيقي هو ضعف النضج في القرار والرؤية.
لأنها عقلية تبريرية لا ترى الخلل في ذاتها، أو في المنظومة البنيوية، بل تبحث عنه دائمًا في الآخرين وفي الظروف، وفي الأدوات، فتُفسر النقد على أنه تمرد، والاختلاف على أنه تهديد، والنصيحة على أنها انتقاص، وهكذا تُقصي العقول الراجحة، وتُقرّب الأصوات الضعيفة، فتتحول المؤسسة إلى بيئة مغلقة تُعيد إنتاج الفكرة ذاتها دون مراجعة.
وعليه، فهي ليست مجرد أسلوب أو إجراء أو سلوك إداري، بل حالة ذهنية خطِرة إذا استقرّت في موقع القرار كانت كفيلة بأن تُطفئ روح المؤسسة وتُفرغ المنظومة من معناها.
ومن هنا تبرز لدي جملة من التساؤلات، وهي: ما المقصود بالمراهقة الإدارية؟ وهل هي سلوك عابر أم حالة ذهنية؟ وما الفرق بينها وبين النضج الإداري؟ وما هي أسبابها؟ وكيف يمكن معالجتها؟
تُشير الأدبيات الإدارية والتحليلية إلى أن المراهقة الإدارية هي ”حالة من عدم النضج الإداري يظهر فيها القائد أو المدير سلوكيات اندفاعية، ورغبةً مفرطة في إثبات الذات، مع ضعفٍ في الحكمة الإدارية والخبرة المتراكمة“.
كما تُعرّف بأنها ”استخدام السلطة دون وعي كافٍ بعواقبها، واتخاذ قرارات سريعة بدوافع شخصية وعاطفية أكثر من كونها قرارات مؤسسية، فهي تمامًا كالمراهق الذي يقود السيارة بسرعة مفرطة لأول مرة وهو لا يُحسن استخدامها أو التحكم بها“.
تتجلى المراهقة الإدارية غالبًا عندما تنحرف السلطة عن دورها الطبيعي كأداة للتنظيم والتخطيط والتوجيه، لتتحول إلى وسيلة للدفاع عن الذات، فيُدار القرار بردود الأفعال لا بالرؤية، وبالاندفاع لا بالحكمة، فيبدو القائد حادّ المزاج في مواقفه وقراراته وتعامله، لا لأنه واثق من نفسه أو حازم في نهجه، بل لأنه مهزوم داخليًا، وخائف من فقدان مكانته وهيبته أمام الآخرين.
وهذا ما نلمسه بوضوح في بعض مؤسساتنا؛ حيث يتقلّب المدير المراهق في قراراته وخططه، بل وحتى في أسلوبه وتعابير وجهه، تبعًا لتقلّبات مزاجه، ثم يُحمّل فريقه تبعات قرارات لم يُشاركهم في صياغتها، أو قد يُعلن بحماسة عن ”مبادرة أو خطة غير مدروسة“، ثم يبحث لاحقًا عن شماعة يُعلّق عليها تعثّره، كضعف الفريق أو مقاومة التغيير، أو قلة الموارد، متناسيًا أن الخلل كان في القرار لا في المنفذين.
فتتحول الممارسات المزاجية إلى نمط ذهني راسخ، إذا تكررت دون مراجعة أو محاسبة أو وعي ذاتي، ومن هنا تتحول المراهقة من مرحلة مؤقتة إلى حالة عقلية مستقرة تُقيّد المؤسسة وتشل قدرتها على التعلّم.
في المقابل، فإن النضج الإداري كما تُشير دراسات السلوك التنظيمي هو ”الممارسة الإدارية الواعية القائمة على الخبرة المتراكمة، وضبط الذات، والرؤية بعيدة المدى، بما يحقق أهداف المؤسسة دون الإضرار برأس المال البشري أو القيمي“.
فالقائد الناضج لا يحتاج إلى رفع الصوت، ولا إلى استعراض السلطة، ولا إلى فرض الهيبة بالقوة، لأنه يفرض احترامه بالعدل والاتزان، والوضوح، والثبات على المبدأ، ومن هنا نفهم حقيقة مهمة، وهي:
أن المؤسسات قد لا تنهار بسبب أخطاء فردية متفرقة هنا وهناك، بمقدار ما تنهار بسبب استقرار التفكير الخاطئ في موقع القرار.
في ضوء ما سبق، لا يمكن فهم المراهقة الإدارية بوصفها خللًا فرديًا معزولًا عن السياق المؤسسي، بل باعتبارها نتاجًا مركّبًا لجملة من العوامل النفسية والتنظيمية والثقافية، فهي لا تنشأ من فراغ أو من خطأ لحظي عابر، بل هي حصيلة بيئة تُهمل الجوهر، وسلوك إداري متقلّب المزاج، وسلطة تُمنح قبل اكتمال النضج، ولهذا يمكن تلخيص أبرز أسبابها ودوافعها على النحو الآتي:
أولًا: الترقية المبكرة قبل اكتمال النضج الإداري
لا يختلف اثنان في الحقل الإداري على أن أحد أكثر الأسباب شيوعًا هو الوصول المبكر إلى موقع السلطة، دون امتلاك أدواتها الإنسانية، كإدارة الذات، وفهم الناس، وضبط الانفعال، ومهارات التفويض، وبناء الثقة… وقد أشارت الدراسات والأبحاث في السلوك التنظيمي، كتقرير Harvard Business Review - 2017، إلى أن نحو 60% من المديرين الجدد يفشلون في أول 18 شهرًا، ليس بسبب نقص الكفاءة الفنية، بل بسبب ضعف المهارات القيادية والنضج العاطفي.
ومن الأمثلة الشائعة في البيئات التنظيمية، نرى موظفًا أمضى سنوات في قسم معين لشركة معينة، يعرف شيئًا عن الأنظمة، ويحفظ عن ظهر قلب شيئًا من التعليمات والإجراءات، فيُعيَّن رئيسًا للقسم، لا لتميّزه الإداري، ولا لشخصيته الكاريزمية … بل بسبب ”أقدميته“ أو لقربه من الإدارة العليا، فيُدير الفريق بعقلية ”أنا الأعرف بكل شيء“، فيُشدّد على الشكليات والصغائر والتوافه من الأمور، ويُقصي المقترحات والآراء، بل ويُدخل نفسه في كل صغيرة وكبيرة، ليؤكد أنه ”موجود“، وعندما يطرح أحد الموظفين المميزين ملاحظة لتحسين العمل، يُقابل ذلك بعبارة من نوع ”ليس من اختصاصك“، ثم عند أول تعثّر يُحمّل الفريق مسؤولية التقصير، متناسيًا أن المشكلة لم تكن في الالتزام، بل في غياب الرؤية والثقة والتفويض.
ثانيًا: غياب المساءلة والتغذية الراجعة
المؤسسات التي لا تُحاسب المدير، ولا تُقيّم قراراته بموضوعية، غالبًا ما يتحول الخطأ إلى عادة، والسلوك المراهق إلى نمط مستقر، فالمدير الذي لا يُسأل: لماذا هذا القرار؟ وما هي نتائجه؟ ومتى يُطبّق؟ وكيف يُطبّق؟ لن يشعر بالحاجة إلى المراجعة أو النضج، ووفق دراسة لمعهد Corporate Executive Board, فإن المؤسسات التي تُطبّق تقييم 360 درجة تقلّ فيها السلوكيات القيادية السلبية بنسبة 30-40% مقارنة بتلك التي تفتقر للمساءلة متعددة الاتجاهات.
ثالثًا: الخلط بين الحزم والاندفاع
هناك فرق كبير بين من يختبئ خلف شعار ”الحزم“ وبين من يمارس الاندفاع باسم الحزم، فالحزم الناضج، إن صح التعبير، يقوم على الوضوح والرؤية والثبات على المبدأ، بينما الاندفاع غير الواعي فيقوم على رد الفعل، ورفع الصوت، واستعراض القوة، وقد عبّر عن ذلك ستيفن كوفي بقوله: ”القوة الحقيقية للقائد لا تظهر في شدّته، بل في قدرته على ضبط نفسه عندما يكون بوسعه أن يفرض رأيه“.
رابعًا: هشاشة الثقة بالنفس والخوف من فقدان المكانة
بدون الثقة بالنفس لا يمكن الحديث عن الإدارة أو القيادة، ولا حتى عن مزاولة المهام والأعمال اليومية بروح إيجابية ومسؤولية حقيقية، فالقادة والأشخاص الفاقدون لثقتهم بأنفسهم يسهُل التحكم فيهم، وبرمجتهم بردود الأفعال أو باستعراض السلطة أو بالاحتماء بالمنصب، ولذلك نراهم يبالغون في التشدد، ويرفضون التفويض، ويُقصون الكفاءات خوفًا من أن تُهدد مكانتهم الرمزية، وقد أشار إلى ذلك عالم الإدارة بيتر دراكر عندما قال: ”أعظم خطر على القيادة ليس ضعف الذكاء، بل ضعف النضج الداخلي“، فيتحول المنصب من مسؤولية إلى درع دفاعي، وتتحول الإدارة من تخطيط وتنظيم وتوجيه إلى صراع خفي على المكانة.
نعتقد أن معالجة ”ظاهرة المراهقة الإدارية“ لا تتحقق بالخطاب الوعظي ولا بالتوجيه وحده، بل من خلال نظام مؤسسي يمنع ترسّخها وتجذّرها، وذلك عبر الخطوات العملية التالية:
1- الترقية على أساس الجدارة والنضج لا على أساس الأقدمية: وتشمل الكفاءة القيادية والسلوكية، لا مجرد الخبرة الفنية فقط، ويقول جون ماكسويل: ”المنصب لا يصنع القائد، بل القائد هو من يصنع قيمة المنصب“.
2- تطبيق مبدأ المساءلة: وتشمل مراجعة القرار قبل نتائجه، وربط الصلاحيات بالمسؤولية، وقد لخّص ونستون تشرشل ذلك بقوله: ”السلطة الحقيقية تُقاس بقدرة صاحبها على تحمّل نتائج قراراته“.
3- تأهيل القيادات نفسيًا وسلوكيًا ومهنيًا، من خلال تطوير مهارات إدارة الانفعال، ومهارات الحوار، والذكاء العاطفي، وبناء الثقة، وإدارة النزاع، والتفويض.
وأخيرًا: ترسيخ ثقافة الاختلاف الآمن بين الإدارة والموظفين، وبين القادة أنفسهم، بحيث يُنظر للاختلاف كقيمة تصحيحية لا كتهديد، وفي هذا يقول المناضل الإفريقي نيلسون مانديلا: ”القائد الحقيقي هو من يُحيط نفسه بأشخاص يختلفون معه، لا بأشخاص يرددون صوته“.
في نهاية هذا المطاف يتبيّن أن ”المراهقة الإدارية“ ليست مجرد خلل سلوكي عابر، ولا نزوة قيادية مؤقتة، بل هي حالة ذهنية خطِرة إذا ترسّخت في موقع القرار تحولت إلى هدم صامت يبدّد الطاقات، ويُقصي الكفاءات، ويُشوّه معنى القيادة.
وإن الخروج من هذا المأزق لا يبدأ بتغيير الأشخاص بقدر ما يبدأ بتغيير الوعي، وإعادة تعريف القيادة باعتبارها مسؤولية أخلاقية ومهنية قبل أن تكون موقعًا تنظيميًا، قيادة تُدار بالعقل لا بالاندفاع، وبالثقة لا بالخوف، وبالإنصاف لا بالإقصاء.













