مكانة الزهراء (ع) في الدلالة القرآنية لسورة الكوثر
﴿إِنّا أَعطَيناكَ الكَوثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانحَر * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبتَرُ﴾ [الكوثر: 1 - 3]
فاطمة الزهراء مصداق الكوثر: قراءة تفسيرية في ضوء السياق القرآني واللسان العربي
تشكل سورة الكوثر واحدة من السور القرآنية التي تميّزت بإيجازٍ بنائي وثراءٍ دلالي، حيث احتوت ثلاث آيات قصيرة حملت جوابًا قاطعًا على اتهامات الخصوم للنبي ﷺ بأنه ”أبتر“ بعد فقدان أبنائه الذكور. وقد غذّت هذه السورة مسارًا تأويليًا واسعًا في التراث الإسلامي، لا سيما لدى مدرسة أهل البيت
، التي قدّمت قراءة تُسند معنى الكوثر إلى السيدة فاطمة الزهراء
. تستند هذه الدراسة إلى منهج التفسير الموضوعي، وإلى التحليل اللغوي والتاريخي، لإعادة بناء العلاقة بين السورة وبين شخصية الزهراء
باعتبارها امتدادًا رساليًا للنبوّة.
تنطلق مشكلة البحث من السؤال المركزي الآتي:
إلى أي مدى تمثّل السيدة فاطمة الزهراء
مصداقًا رئيسًا لمعنى الكوثر في سورة الكوثر؟
ويتفرّع عنه عدد من الأسئلة:
1. ما الدلالة اللغوية الأصلية لكلمة الكوثر؟
2. ما السياق التاريخي لنزول السورة؟
3. هل العلاقة بين السورة والزهراء علاقة تفسير مباشر أم مصداق من مصاديق الخير الكثير؟
تتفق المعاجم اللغوية على أن ”الكوثر“ صيغة مبالغة من الكثرة، وتشير إلى ”الخير الفائض المتدفّق“ «ابن فارس، مقاييس اللغة؛ الراغب الأصفهاني، المفردات». وقد حملت اللفظة هذا المعنى الواسع في التفاسير الإسلامية، مع اختلاف المصاديق:
1. الخير الكثير
2. النهر في الجنة
3. النبوّة والقرآن
4. كثرة الأتباع والنسل
وذكرت أيضا معانٍ أخرى.
غير أنّ مدرسة أهل البيت قدّمت إضافة تأويلية مركزية، وهي أن الكوثر فاطمة
، وذهب إلى ذلك بعض علماء أهل السنة.
يتبيّن من التدبّر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر﴾ أنّ لفظ الكوثر ليس وصفًا لشيءٍ معيّن من النِّعم، بل هو وصفٌ لمصدر الكثرة ذاته؛ أي لما تنشأ عنه الصور المتعددة للفيض والازدياد. فالنصّ القرآني لم يحدّد جنس هذه العطيّة ولا نوعها ولا مجال تجلّيها، بل جاء التعبير بصيغةٍ مطلقة.
تفيد كتب السيرة أن البيئة المكية كانت تُقيّم مكانة الرجل الاجتماعية بقدر امتداده الذكوري. وحين فقد النبي ﷺ ابنيه القاسم وعبدالله، استغلّ بعض المشركين ذلك ليصفوه ب«الأبتر»، أي المنقطع الذكر. وفي هذا السياق نزلت سورة الكوثر لتقليب المنطق الاجتماعي السائد، حيث لم تُجب على التهمة مباشرة، بل بنَت رؤية بديلة لمفهوم الامتداد.
تبدأ السورة بصياغة منٍّ إلهي: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ، وهو إعلانٌ عن عطاء يفوق ما يربطه المجتمع الجاهلي بمفهوم النسل. وتُختَم السورة بقلبٍ بلاغي: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ ، فيتحوّل الحكم من النبي إلى خصومه، مما يمنح النصّ قوةً حجاجية واضحة.
وتشير الدراسات إلى أن السورة تحمل ثلاثة محاور:
1. تكريم النبي بإعلان العطاء الإلهي.
2. إبطال مقولة الأبتر.
3. تثبيت الامتداد الرسالي في مقابل محاولات التشويه.
«الكوثر: فاطمة»
هذا التأويل لا يُلغي بقية المصاديق، لكنه يشكّل ”المصداق الأتمّ“ الذي يجمع بينها.
حينما تُشير الروايات إلى أنّ من جملة الكوثر الخير الكثير، وأن من أبرز مظاهره كثرة ذرية النبي ﷺ، فإنّ هذا لا يحدّ المعنى ولا يضيّقه. فذرية النبي - وإن كانت من أعظم تجلّيات هذا العطاء - فهي داخلة في الإطار الواسع للكوثر، لا باعتبارها هي كلّ الكوثر، بل باعتبارها واحدة من ثمار ذلك الأصل الذي تنبثق عنه الكثرات.
ذلك أنّ طبيعة الخير الكثير نفسها منفتحة وغير محصورة في حدٍّ محدود أو سنخٍ واحد؛ بل تمتدّ حيث يمتدّ الفيض الإلهي. فالكوثر ليس اسمًا لمظهر واحد، بل هو البنية الأصلية لكلّ نماءٍ يتزايد، وكلّ بركةٍ تتوالد، وكلّ فضلٍ يتشعّب—في الدنيا والآخرة، وفي المجال الروحي كما في المجال المادي.
وبهذا تكون ذرية النبي ﷺ جزءًا من هذا المعنى الشامل:
تجلّيًا من تجلّيات الكثرة، وإحدى الثمار المباركة التي صدرت عن ذلك الأصل الإلهي العظيم الذي سمّاه الله كوثرًا.
ومن بين جميع تجلّيات الكثرة التي انبثقت من ذلك الكوثر الإلهي، تبرز السيّدة فاطمة الزهراء
بوصفها أعظم مصاديقه وأجلى مظاهره؛ فهي الحلقة التي تفرّعت منها ذرية النبي ﷺ، وهي الأمّ الجامعة التي امتدّ فيها نور الرسالة، ومنها تفرّعت الأئمّة الأطهار، وتتابعت بها سلسلة الخير والبركة عبر الزمن.
فإذا كانت ذرية النبي ﷺ إحدى ثمار الكوثر، فإنّ فاطمة هي الشجرة التي خرجت منها هذه الثمار، وهي المركز الذي تدفّقت منه الكثرة، الروحية والنَسَبية، العلمية والعملية، حتى غدت تجسيدًا حيًّا لذلك الفيض الإلهي الذي وعد الله به نبيّه.
وهكذا يتبيّن أنّ الكوثر، بما هو أصل الكثرة وموضع انبثاقها، قد تجلّى بأبهى صوره في الزهراء
؛
فهي المَظهر الأكمل للخير الكثير، والمرآة التي انعكس عليها العطاء الربّاني الواسع، ولذلك كانت أبرز مصاديق الكوثر وأشدّها إشراقًا في الوجود.
في المصادر السنية:
وبالعودة إلى سورة الكوثر، فلقد أخرج أصحاب العديد من التفاسير نزول هذه السورة بشأن فاطمة الزهراء والأئمة من ولدها سلام الله تعالى عليها. نذكر عددا مختصرا منهم.
ومنهم شيخ زاده في حاشيته على تفسير البيضاوي، عند تفسير سورة الكوثر قال: إنّ المفسرين ذكروا في تفسير الكوثرأقوالاً كثيرة منها: أنّ المراد بالكوثر أولاده عليه وآله الصلاة والسلام، ويدل عليه أن هذه السورة نزلت ردّاً على من قال في حقّه عليه وآله الصلاة والسلام أنّه أبتر ليس له من يقوم مقامه. [1]
ومنهم الفخر الرازي، في تفسيره الكبير، قال:
”ذكر من ضمن الأقوال: الكوثر أولاده قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على من عابه
بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا
والنفس الزكية وأمثالهم.“ [2]
وذكر الألوسي في تفسيره، مشيرا إلى معنى الكوثر:
”"وقيل هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت رداً على ما عابه صلى اللَّه عليه وسلّم وهم الحمد للَّه تعالى كثيرون قد ملؤا البسيطة.“ [3]
وقال الآلوسيّ في تفسير إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ:
” ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أي مبغضك كائناً من كان ﴿هُوَ الأَبْتَرُ﴾ الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان …وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد“ [4]
ومن استعمال ظاهر اللسان العربي تفسير ”الكوثر“ بأنه الذرية الكثيرة. في قوله تعالى: ”إنا أعطيناك الكوثر“. فهى صيغة مبالغة من الكثرة «فوعل» يؤيد ذلك الآية التى تجئ فيما بعد ”إن شائنك هو الأبتر“ والأبتر من لا عقب له. وبهذا ساغ تفسير الشيعة بأن الكوثر هو الذرية. وقد رزق الله النبي الذرية الكثيرة من فاطمة. فهى الكوثر المقصود. والآخرون يقولون إن الكوثر نهر في الجنة [5] .
المصادر الشيعية:
مجمع البيان: وقيل هو كثرة النسل والذرية وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة
حتى لا يحصى عددهم واتصل إلى يوم القيامة مدده. [6]
قال العلامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير الميزان: " إنّ كثرة ذرّيّته هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبّي ﷺ، أو المراد بها الخير الكثير، وكثرة الذرّيّة مرادة في ضمن الخير الكثير، ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله إنّ شانئك هو الأبتر خالياً عن الفائدة.
وقد استفاضت الروايات أنّ السورة إنّما نزلت فيمن عابه ﷺ بالأبتر بعد ما مات ابنه القاسم وعبدالله، وبذلك يندفع ما قيل إنّ مراد الشانئ بقوله أبتر المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير، فردّ الله عليه بأنّه هو المنقطع من كلّ خير. [7]
”الجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة
ذريته ﷺ، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.“ [8]
وفي الأمثل:
"فاطمة عليها السّلام والكوثر
قلنا إنّ «الكوثر» له معنى واسع يشمل كل خير وهبه اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ومصاديقه كثيرة، لكن كثيرا من علماء الشيعة ذهبوا إلى أنّ «فاطمة الزهراء عليها السّلام» من أوضح مصاديق الكوثر، لأنّ رواية سبب النزول تقول: إنّ المشركين وصموا النّبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ.
و من هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء عليها السّلام، لأن نسل الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة... وذرية الرسول من فاطمة لم يكونوا امتدادا جسميا للرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فحسب، بل كانوا امتدادا رساليا صانوا الإسلام وضحوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمّة الدين الإثني عشر، أو الخلفاء الإثنا عشر بعد النّبي كما أخبر عنهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في الأحاديث المتواترة بين السنة والشيعة، وكان منهم أيضا الآلاف المؤلفة من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسّرين وقادة الأمة [9] .
وقال العلامة السند:
”احتلت سورة الكوثر مساحة واسعة من المرتكز الإسلامي الذي يؤكد أنالمقصود من الكوثر هو فاطمة
، فانّ مقتضى سياق الآية في مقابل الشانيء الذي هو أبتر لا ذرية له، بخلاف النبي ﷺ فانّ له الكوثر أي الذرية الكثيرة وهي فاطمة
وما يحصل من ذريتها، ومقتضى المقابلة هو في كثرة الذرية، وإلا لإختلّت المقابلة، والاثبات والنفي لم يردا على شيء واحد، وهذا لا ينافي تأويل الكوثر بأنه نهر في القيامة يسقي به النبي ﷺ أمّته فالكلام في مورد نزول الآية، وقد ذهب إلى ذلك الفريقين.“ «10 «»
وقال الشيخ المسعودي:
ولا شك ولا ريب ومن خلال استقراء حياة فاطمة " عليهاالسلام قبل وبعد وفاتها هي الخير الكثير الذي ورد فيه قوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»، ولقد انطبقت عليها هذه المعاني لكثرة بركتها على رسول الله صلىاللهعليه وآله وسلم وعلى أهل بيته وعلى شيعة أمير المؤمنين، فأي بركة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل فاطمة والتي على معرفتها دارت القرون الأولى، وأي بركة أكبر وأفضل من بركة فاطمة سلام الله عليها على الشيعة وخاصة في هذه الحياة الدنيا حيث كانت الوعاء الأكبر للإمامة التي مثلت أفضل مصاديق الولاية الكبرى وأي بركة أفضل منها عندما تأتي يوم القيامة وتخلص شيعتها ومحبيها من عذاب النار [11] .
وذكر السيد علي الصدر:
”ولا منافاة أن يُراد بالكوثر الذي أعطاه الله لرسوله ﷺ هو حوض الكوثر الذي هو من مصاديق الخير الكثير الذي يُروى الناس في ذلك اليوم العسير مع الخيرات الكثيرة الاُخرى، كالبركة في نسله من الصديقة الطاهرة سلام الله عليها التي بارك الله فيها وفي ذريّتها بالرغم من قصر عمرها، وبالرغم من كثرة شهادة ذريّتها بحيث لم يبق لها يوم عاشوراء من الامام الحسن
إلّا الحسن المثنى جريحاً، ولم يبق لها من الامام الحسين إلّا الامام السجاد عليهما السلام عليلاً، وبالرغم من ذلك بورك في ذريّتها بحيث صاروا يبلغ في أنحاء العالم.“ [12]
وفي الموسوعة الكبرى:
" قال السيد الشريف العاملي في ذكر الكوثر بعد ما ذكر الأقوال فيه: والأنسب بالمقام أن يكون المقصود من الكوثر هي الصديقة فاطمة الزهراء
.
ووجه المناسبة، إن الكافر شمت بالنبي صلى اللّه عليه وآله حين مات أولاده الذكور: أن محمدا أبتر، فإن مات، مات ذكره. فأنزل اللّه هذه السورة على نبيه صلى اللّه عليه وآله تسلية له؛ كأنه تعالى يقول:
إن كان ابنك قد مات فإنا أعطيناك فاطمة
، وهي وإن كانت واحدة... لكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيرا...، وقد ظهرت الكثرة في نسله من ولد فاطمة
. وبهذا الشأن جرى حوار بين هارون والإمام موسى بن جعفر
...." [13]
وفي مورد آخر من الموسوعة:
" كلمة الملا فتح اللّه الكاشاني في تفسير الكوثر أنه الكثرة في الأولاد والأعقاب وكثرة نسله وذريته صلى اللّه عليه وآله من فاطمة الزهراء
.
إن الكوثر العدد الكثير، وكثرة نسل رسوله من ابنته فاطمة
على وجه الأرض.
كلمة الشيخ المهاجر في ذكر سورة كوثر:... إطلاق اسم الكوثر على فاطمة
لأنها أم أبيها ومنها تناسل ذرية النبي الأعظم محمد صلى اللّه عليه وآله.
كلمة السيد الشريف في معنى الكوثر: أنها فاطمة
، لكثرة نسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من ولد فاطمة
.
كلام أبي جعفر
في قوله تعالى: «مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً»... الشجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفرع الشجرة علي بن أبي طالب
وغصنها فاطمة
وثمراتها الأئمة من ولد علي وفاطمة
وشيعتهم ورقها [14] ...
وذكر العلامة علي الكوراني:
”الكوثر: كوثر الذرية من فاطمة، وحوض الكوثر في المحشر، ونهر الكوثر في الجنة. فقد استعملت الكلمة في عدة معان، وهذا من بلاغة القرآن.“ [15]
وقال العلامة جعفر العاملي:
«الكوثر»، التي جاءت مطلقة، صالحة لشمول كل ما هو قابل للتكثير من أمور الخير، ولم تقتصر على أمر النسل؛ وإن كان النسل هو أعز مصاديقه وأسماها ما دام أنه سيتجلى بأئمة الهدى الذين هم خيرة اللّه وصفوته من خلقه. وذلك ليكون اعطاؤه «الكوثر» غير المحدود هو الردّ القوي والحاسم على النظرة الضيّقة لأمثال ذلك الحاقد والشانىء." [16]
لذا، لمّا كان الكوثر نهرًا في الجنة، صافياً، لامعاً، تجري تحته البركة، كان من المناسب أن تكون فاطمة في الدنيا نهر الرحمة المتدفق. حياتها قصيرة في عدد السنين، عظيمة في عدد المواقف، كأن القدر شاء أن يقول: ليست البركة بكثرة الأيام، بل بامتلائها.
كانت فاطمة
أكثر من ابنةٍ لرسول الله؛ كانت سكينته، وطمأنينته، وريحانته، ومهبط أسراره.
كان إذا اشتاق إلى الجنة شمَّها، وإذا ضاقت عليه هموم الدعوة جلس إليها، فهي وحدها التي سماها: «أمّ أبيها».
في ضوء مفهوم الكوثر.1. فاطمة بوصفها امتدادًا رساليًا للنبوّة
تؤكد الروايات التاريخية والحديثية أنّ جميع نسل النبي ﷺ بعد وفاته ينتهي إلى فاطمة
، وأن الإمامة - التي تمثل الامتداد الديني والسياسي للنبوّة - جاءت عبر ذريّتها حصريًا. وهذا ينسجم مع منطق ”الخير الكثير“ الذي تتحدث عنه السورة، حيث يصبح الامتداد معنويًا وروحيًا لا جسديًا فحسب.
وما كان للنبيّ أن يُبشَّر بالكوثر إلا لأن فاطمة ستصبح أصل الطُّهر، وأمّ الأئمة، وحلقة النور التي لا تنطفئ.
فهي التي بقي نسل النبي منها، وامتداده المبارك، حتى قيل:
إن كلّ نورٍ في بيت النبي بدأ من فاطمة، وكلّ علمٍ سار في الأمة وجد ظله عندها.
2. فاطمة نموذجٌ للخير الكثير
يشمل مفهوم ”الكوثر“ في شخصيتها جوانب متعددة:
• العلم اللدني: فقد نُقلت عنها علومٌ خاصة وحكمة روحية.
• الطهارة والعصمة: كما دلّت آية التطهير على مقامها الخاص.
• الدور الاجتماعي: خاصة في رعاية النبي ودعم دعوته.
• الموقع العقائدي: كونها محور الإمامة والولاية.
كل هذه العناصر تُظهر كيف يمكن لشخصية واحدة أن تكون ”فيضًا“ للخير بحسب المنظور القرآني.
إن قراءة السورة بلاغيًا تكشف عن منطق متكامل:
أ. الامتنان الإلهي:
«إنا أعطيناك»
صيغة اختصاص وامتنان، تقرّر استقلالية العطاء الإلهي عن مقاييس المجتمع الجاهلي.
ب. التوجيه العبادي:
«فصلِّ لربك وانحر»
يربط القرآن الامتداد الحقيقي بالعبادة لا بالنسل.
ج. قلب التهمة:
«إن شانئك هو الأبتر»
تحليل بلاغي يقلب الخطاب من المجال الاجتماعي إلى المجال القيميّ، فالبتر الحقيقي ليس فقد الابن، بل فقد الرسالة، وفقد أثر الإنسان في التاريخ.
هنا تتجلّى فاطمة
بوصفها التجسيد الأعلى لامتداد النبي: فهي موضع النسل، وموضع الرسالة، وموضع الإمامة، وموضع العلم.
تسهم آيات عدة في بناء صورة قرآنية متكاملة لمقام الزهراء:
•آية التطهير «الأحزاب: 33»: تؤسس لمقام العصمة والطهارة.
• آية المباهلة «آل عمران: 61»: تجعل ”نساءنا محصورة بالسيدة فاطمة“ في مقام الحُجّة.
• سورة الإنسان: تشير إلى العطاء الفاطمي في قصة الإطعام.
في ضوء هذه المقاصد، يصبح تفسير ”الكوثر“ بفاطمة قراءة متكاملة تعضدها بنية النصّ القرآني.
يتبين لنا مما تقدم من خلال هذا البحث أنّ العلاقة بين سورة الكوثر وشخصية فاطمة الزهراء ليست علاقة تفسيرٍ فحسب، بل علاقة مفهومية وموضوعية تجمع بين الامتداد النسبي، والطهر الروحي، والبركة التاريخية.
ويمثّل هذا الربط نموذجًا لفهم أعمق لدور السيدة الزهراء في البناء العقدي والوجداني للأمة الإسلامية، ولطبيعة العطاء الإلهي للنبي ﷺ.
مقتضى سياق الآية يشير إلى المقابلة بين الرسول ﷺ والشانيء الذي وصفه الله بأنّه أبتر، أي لا نسل له.
وفي المقابل، فإنّ الله تعالى يثبت لنبيّه ﷺ الكوثر، أي الذرية الكثيرة المتمثّلة في فاطمة
وما ينحدر من نسلها الطاهر.
ولا يتعارض ذلك مع التأويل الآخر الوارد في الروايات، وهو أنّ الكوثر نهرٌ في الجنّة يسقي به النبيُّ ﷺ أمّتَه يوم القيامة؛ إذ إنّ هذا التأويل مرتبط بعالم الآخرة، أمّا الكلام هنا فهو في مورد نزول الآية ودلالتها المباشرة.
وقد ذهب إلى هذا التفسير العلماء من الفريقين «السنّة والشيعة»، ممّا يمنحه قوّةً في الدلالة واتّساعًا في القبول.
أظهرت هذه القراءة أنّ تفسير ”الكوثر“ بفاطمة الزهراء
ليس مجرد تأويل محدود، بل هو تفسير ذو أساس لغوي وبلاغي وتاريخي، ينسجم مع سياق السورة ومقاصدها. وقد بيّن التحليل أنّ شخصية الزهراء شكّلت الامتداد الرسالي للنبوّة عبر الإمامة والنسل المبارك، وأنّ السورة تقدّم رؤية جديدة للامتداد الإنساني تتجاوز النموذج الجاهلي لتُعيد بناء القيمة على أساس العطاء الروحي والمعرفي. وهكذا تتكامل الدلالة القرآنية مع هذه الرؤية لتجعل من فاطمة
مصداقًا مركزيًا للكوثر.













