آخر تحديث: 14 / 12 / 2025م - 11:08 م

كأس الحقد

سوزان آل حمود *

الحقد، تلك العاطفة المظلمة التي تختبئ في زوايا النفس، ليست مجرد شعور عابر، بل هي سُمٌّ بطيء المفعول ينهش سلام الروح ويهدد استقرار المجتمع. إنه الرفيق الخفي الذي لا يجلب لصاحبه إلا التعاسة والضيق، ويحجب عنه نور الحكمة والرضا.

الحقد هو مرآة مشوهة تعكس نقصًا داخليًا أو غيرة متفشية، ولكنه يرتدي قناعًا يوهم صاحبه بالاستحقاق والعدالة الزائفة. ينبع الحقد غالبًا من مقارنات غير صحية، حيث يرى الحاسد في الآخرين ما يفتقده في نفسه.

على صعيد الإنسان الفردي: يتحول الحقد إلى قيد يشدّ صاحبه إلى الماضي، يمنعه من رؤية الجمال في الحاضر أو التخطيط للمستقبل بإيجابية. يصبح تركيزه منصبًا على مراقبة المحقود عليه وتمني زوال نعمته، بدلاً من العمل على تطوير ذاته. يستهلك هذا الشعور المدمر طاقته الفكرية والعاطفية، ويجعله يعيش في جحيم داخلي لا ينطفئ.

على صعيد المجتمع:

الحقد هو بذرة للفتنة والتفكك. عندما تتفشى الأحقاد بين الأفراد، تصبح العلاقات هشة، ويغيب التعاون والثقة. يتحول المجتمع إلى ساحة صراع خفية، حيث يتفنن البعض في الكيد للآخرين بدلاً من بناء صرح المصلحة المشتركة. إنه آفة تضرب في عمق النسيج الاجتماعي، وتضعف قدرته على النمو والازدهار.

إن أكثر أنواع الحقد فتكًا هو ذاك الذي يتولد نتيجة الغيرة من الجمال، الذكاء، أو النجاح الظاهر. تكمن المفارقة المأساوية في أن المحقود عليه، الذي تراه عيناك متألقًا، ربما يكابد في صمت معارك نفسية أو جسدية لا يعلم عنها حاقده شيئًا. هو شخص له آلامه وتحدياته الخاصة، لكن عين الحقد لا ترى إلا البريق الخارجي.

يتطور هذا الحقد ليصبح ”كأس الحقد“ الذي يشربه الحاقد مرارًا وتكرارًا، فيزداد مرارة ويُعمي بصيرته. والغريب أن هذا السُم لا يتوقف عند حدّه؛ بل يمتد ليصبح ميراثًا قبيحًا، حيث يورثه الحاقد لأبنائه، فينشأ جيل جديد يحمل عبئًا من الكراهية لم يصنعه، جيل يفتقد للوعي بقيمة الوحدة والتعاون في بناء المجتمع. بهذا، يصبح الحقد إسهامًا فعليًا في نشر الفوضى والجهل بقيمة الألفة.

أمثلة مؤلمة من كؤوس الحقد:

1. حقد الإخوة غير الأشقاء: إنها مأساة حقيقية أن يتحول الإخوة إلى أعداء بسبب زيجة الأب أو الميراث. فبدلاً من أن يكون الرابط الأخوي أساسًا للمحبة والدعم، يتحول إلى دافع للحقد وسرقة الحقوق، والتخطيط للاتهام بالزور والبهتان. ما ذنب الأشقاء الجدد ليتحملوا وزر قرار لم يكن لهم يد فيه؟

هذا الحقد لا يسلبهم حقهم فحسب، بل يمزق عائلة بأكملها.

2. حقد الزملاء في العمل: هي قصة تتكرر يوميًا. زميلة لم تفعل لك سوءًا، لكن تميزها أو حتى مجرد إحساسك بتهديد لموقعك، يشعل في قلبك نار الغيرة. هذا الحقد يجعلك ترتكبين الحماقات وتسببين لها المشاكل، وربما تكونين السبب في أذى كبير لها. الغيرة التي تعمي القلب تحول الشخص من زميل إلى كائد، ناسياً أن ”الله كان ولا يزال شاهدًا“ على كل سوء نية أو فعل.

إن هذه الأفعال، سواء أكانت في حرمان أخ أو ظلم زميلة، هي وديعة محفوظة لا تضيع عند الله أبدًا، ولن ينال الفاعل منها إلا عواقبها، ”إن عاجلاً أو آجلاً“.

بقدر ما يبدو طريق الحقد شائكًا ومُتعبًا، بقدر ما يبدو طريق الحب سهلاً ميسورًا وعذبًا. إن طريق الحب هو كشربة ماء هنيئة، تُروي الظمأ وتجلب راحة البال وسرورًا دائمًا لا ينضب.

الحب هو قرار،

قرارٌ بأن تُزيح عن عينيك غشاوة النقص والغيرة، وأن ترى في نجاح الآخرين مصدر إلهام لا دافعًا للحقد. عندما تحب، فأنت تقرر أن تكون سيدًا على مشاعرك لا عبدًا لها.

كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر: 10].

فلا تلوثوا قلوبكم بكؤوس الحقد، ولا تهدروا أعماركم في مراقبة زوال نعم الآخرين.

دعوة من قلبي:

دعوا الأحزان والأحقاد، وافتحوا قلوبكم للمحبة والمسامحة. انظروا إلى الحياة بعين الرضا، واسعوا نحو تجميل ذواتكم بدلاً من تمني زوال جمال الآخرين. ففي الحب والخير والمسامحة، يكمن السر الأعظم للسعادة، سعادة لا تُشترى ولا تُورث، بل تُصنع بقرار شخصي نبيل.