آخر تحديث: 14 / 12 / 2025م - 11:08 م

جلسة وضيف مجهول

عماد آل عبيدان

في ذلك الصباح كنت أبحث عن طاولة فارغة في قاعة تعج بالوجوه لا لشيء إلا لأنني كنت أريد وجهًا لا يشبه أحدًا أو ألوذ بوحدتي. ربما لهذا السبب اخترت الجلوس تحت طاولة خشبية متهالكة في الزاوية نصف رجلها الرابع كان يعاني من قصر مزمن فتتأرجح عليها الأشياء كما لو أنها تمشي على عكاز ذاكرة.

جلست هناك لأنني كنت منهكًا من الناس… لا كرهًا لأن التفاعل المتواصل مع الضجة والأحاديث المتعاقبة يسرق من الإنسان شيئًا لا يعرف له اسمًا واضحًا. أحضرت كأسًا من الشاي ووضعته على الطاولة وفتحت دفتري كما لو أنني كاتب عظيم نسي أن يكون مشهورًا فقط لأدوّن ملاحظات عن أشياء لم تحدث بعد.

حينها جلس أمامي رجل في منتصف الخمسين دون استئذان كما يجلس القدر حين لا يجد من يمانعه.

لم أنظر إليه مباشرة واكتفيت بتلك النظرة الجانبية التي يتقنها كل من اعتاد الحذر.

لم يكن غريبًا أن يتحدث والغريب أكثر أنه تحدث كأنني أعرفه منذ زمن طويل. قال جملة واحدة أربكت صباحي كله:

”هل تعرف كم من القرارات العظيمة اتُّخذت في أماكن لا تليق بالعظمة؟“

لم أجب لكنه لم ينتظر وبدأ يسرد حكاية دون أن يخبرني لماذا اختارني أنا تحديدًا مستمعًا.

حكاية عن ابنه وزوجته السابقة ووظيفته التي خسرها وماله الذي ضاع في مشروع أخطأ في تقديره فخسره. لم يكن يتكلم أو يعرض نفسه كبائس أو كشكوى كأنما يضعها معروضات قديمة في متحف لا يزوره أحد.

ثم قال جملة عجيبة:

”يا بني… نحن لا نُهزم عندما نخسر نحن نُهزم عندما لا نعرف كيف نحكي خساراتنا.“

كان يتحدث لا ليستعرض ألمه لكنه كان يحرضني على أن أراجع فكرتي عن الحياة عن تلك اللحظة التي يتوقف فيها الإنسان عن التظاهر بالقوة ويبدأ باكتشاف أنه أضعف مما كان يدّعي… لكنه أجمل مما كان يظن.

سألته وأنا أضبط استقامتي وجلستي:

”ولماذا تخبرني أنا بكل هذا؟“

نظر في عينيّ مباشرة وقال:

”لأنك الوحيد في هذا المكان الذي لا يختبئ خلف هاتف ولا يضحك بصوت أعلى من حاجته ولا يبدو متورطًا في محاولة إثبات شيء لأحد… كنت تبحث عن طاولة لا يجلس عليها أحد أليس كذلك؟“

سكتُّ ولم أجب.

كان قد قرأني بطريقة تجعل الإنسان يتمنى لو أنه ارتدى درعًا قبل أن يغادر بيته. لكن الغريب أنني شعرت براحة. شعرت أن الحياة كما هي لا تحتاج دائمًا إلى دراما ولا إلى حبكة غير أنها أحيانًا تحتاج إلى شخص يأتي دون موعد ويقول ما يجب أن يُقال دون انتظار نهاية أو نتيجة.

نهض بعد ساعة من الحديث وكان السكون فيها أطول من الكلام وترك على الطاولة ورقة صغيرة حملت جملة بخط يدوي:

”حين تجد مَن يصغي لا تكن بخيلًا بحكايتك… فربما ينقذها أحدهم فقط لأنه كان يحتاج أن يسمعها.“

غادر كما جاء دون اسم ودون وداع ولم أره بعدها أبدًا.

لكنني منذ ذلك اليوم…

ما عدت أبحث عن الطاولات الفارغة

وإنما عن الطاولات التي تجلس فوقها حكايات… تنتظر أن تُروى.