مشروع رجل تافه
يتغذّى العقل على ما يلتقطه من فضائه الخارجي: مقالات وصور ومقاطع فيديو وما يسمعه الإنسان ويراه في محيطه اليومي. ومع وفرة العرض وتفنّن التسويق، تصبح الأفكار - مهما كانت قيمتها - قادرة على التغلغل إلى الداخل وتشكيل مبادئ الناس وميولهم. لكن ماذا يحدث حين تحصد مادة سخيفة ملايين الإعجابات؟ يحدث أن يتكشّف نجاح آخر: نجاح في صناعة التافهين لا في صناعة محتوى تافه فقط. وعندها لا يحتاج الباحث إلى استبيانات وبحوث لقياس مستوى التفاهة؛ فميزان المجتمع نفسه كافي. ضع مادة سطحية من شخص تافه في كفة، ومحتوى راقيًا ذا قيمة أخلاقية في الكفة الأخرى وسيرشدك حجم التفاعل إلى حقيقة الفجوة.
في اعتقادي أن حجم التفاهة مرعب إلى حدّ يدعو للدهشة. وهذا يعني أننا نبحث عمّا يستحق أن يُقرأ كما تنقّب شركات النفط عنه في اعماق طبقات الأرض. لاحظ - سيدي القارئ - ما يُنشر في قنوات التواصل، وما يُرسل في مجموعات الواتساب، وما يتداوله الناس في مجالسهم اليومية؛ ستجد أن معظم ذلك يبعث على الخيبة. سخافات لا يمكن لعقل سليم تصديقها تنتشر انتشار النار في الهشيم، وخدع يدرك زيفها صاحب أدنى فطنة، ومع ذلك تجد لها رواجًا واسعًا. أطروحات عقيمة لا قيمة لها تفرض نفسها على الواجهة؛ لماذا يحدث هذا كله؟ لأن العقل حين يفتقد المعايير المنطقية في قبول الأشياء ورفضها، يصبح دمية يسيرها الإعلام كما يشاء، ويُعاد تشكيلها حتى يصبح الإنسان - من حيث لا يشعر - مشروع رجل تافه في قادم الأيام.
شخصيًّا، أجد متعة في متابعة الجلسات القضائية، فهي تكشف الكثير من ملامح إنسانية قد يبدو بعضها غريبا. ومن أعجب ما شاهدتُ أن شابًا امريكيًا رفع قضية على والده لأنه لم يشترِ له إحدى سيارتين: لامبورغيني أو فيراري. كان الابن قد تخرّج بتفوق من الثانوية والتحق بالجامعة، ورأى أن وعد أبيه بشراء سيارة يخول له الحصول على واحدة من هاتين الفارهتين، ولذلك لم يتردد في رفع الدعوى عليه. يبقى السؤال: من يصنع هذه النماذج؟ ومن يغذي هذا النمط من التفكير؟ إنها - ببساطة - الميديا المنتشرة هنا وهناك، ونحن جميعًا نساهم في ذلك من حيث لا نشعر، بما ننشره ونتداوله ونعيد مشاركته. لذلك، راجع نفسك - قارئي العزيز - قبل أن ترسل رسالة أو تنشر منشورًا، واسأل: هل ما أقدمه يستحق القراءة؟ وهل يحمل قيمة حقيقية أم لا؟ فالكلمة التي لا معنى لها قد تصبح، في يوم مّا، سببًا في تكوين عقل يرفع دعوى على والده ليطالبه بـ لامبورغيني بسبب ما كتبتَ وما روّجتَ أنت له.













