آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

خطايا لا تغتفر

سوزان آل حمود *

نداء من الهاوية، هل سمعت يومًا صرير باب فُتح على غرفة منسية في قبو الروح؟ تلك ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي الأثر الباقي لخطايا لا تُغتفر. إنها ليست مجرد زلات بسيطة، بل هي تلك اللحظات الفاصلة التي انحنى فيها العمود الفقري للأخلاق، وتغير بعدها اتجاه البوصلة الداخلية للأبد.

هذه الخطايا لا تسكن السجلات العامة، بل تختبئ خلف ابتسامة متقنة الصنع، وداخل عيون تحمل ثقل سنوات من الندم الصامت. إننا جميعًا نحملها، تلك الوشوم الخفية على جلد الروح. لكن السؤال الحقيقي ليس: ”ما هي خطيئتك؟“ بل: ”هل أنت مستعد لدفع ثمنها الأبدي؟“!

ليست كل ”خطيئة“ تعني خرقًا للشريعة، فبعض أعظم الخطايا هي تلك التي نرتكبها في حق ذواتنا، وفي حق النور الذي كان يجب أن نشع به. الخطايا التي لا تُغتفر هي تجسيد لحالات ثلاث:

1. موت الفطرة

أفدح الخطايا هو قتل الشغف الأصيل. هل تذكر الحلم الذي وضعته جانبًا لتتبع مسارًا «أكثر أمانًا»؟ تلك الروح الشابة التي خنقتها خوفًا من الفشل أو حكم الآخرين؟ هذه هي خطيئة الرضا بالباهت. إنها ذنب ترك القلب يجف، والعيش بنصف حماس، وبثمنه فقدت الحياة لمعانها. إنها أن تعيش كنسخة باهتة من تحفة فنية كان مقدرًا لها أن تكون أنت.

2. الكبرياء والفرصة الضائعة

هناك لحظات في الحياة تحمل ثقل الأبدية: كلمة لم تُقل، اعتذار لم يقدّم، يد لم تُمَدّ. الخطأ هنا ليس الفعل، بل الامتناع عن الفعل في ذروة الحاجة. هذه الخطايا تُولد من كبرياء أجوف أو تردد سخيف، وتُخلف وراءها فراغات لا يستطيع الزمن رتقها. إنها أن تقف على شاطئ فرصة الغفران وتختار الغرق في عتمة الأنا.

3. كسر العهد النبيل

أما أعمق الخطايا، فهي تلك التي تمزق النسيج غير المرئي للثقة والمحبة بين النفوس. أن تتلاعب بقلب مؤتمن، أو تستغل ضعفًا، أو تهدم بناءً عاطفيًّا بإشارة باردة. هذه الخطايا لا يستطيع الندم محوها بالكامل؛ لأن ضررها تجاوز مرتكبها. إنها خطيئة تحويل الجمال إلى رماد، والتي يظل صداها يلاحق الروح، ليس كإدانة من الخارج، بل كهمس داخلي: ”لقد عرفت الخير واخترت سواه“.

همستي إليك:

هذه الخطايا ليست لعنات، بل هي شهادة على قوة الاختيار الإنساني. إنها دليل على أننا نمتلك القدرة على إحداث جرح عميق، وهذا يُضفي على وجودنا وزنًا وشغفًا مؤلمًا.

ختامًا،

إن «خطايانا التي لا تُغتفر» ليست دعوة لليأس، بل هي صيحة استيقاظ. إنها ليست عن العقاب من قوة عليا، بل عن العقاب الذي تفرضه الروح على نفسها. فالحقيقة ليست في أن الغفران مستحيل الحصول عليه، بل في أن الروح نفسها لا تستطيع تقبله بالكامل؛ لأنها تعلم أن الثمن كان أكبر من أي كفارة.

لكن، في هذا الثقل الأبدي، يكمن الجمال المأساوي للشغف الإنساني. فالرغبة الملتهبة في التكفير، في أن نعيش بقية حياتنا جسرًا لمن هدمناهم، أو شاهدًا على ما ضحينا به، هي في حد ذاتها شكل من أشكال القداسة. إنها تحويل الذنب إلى وقود، والخطيئة إلى دافع.

لذا، دعونا لا نسعى لغفران لن يأتي، بل نسعى لأن نكون جديرين بحمل ثقل هذا الذنب. فربما تكون الخطايا التي لا تُغتفر هي في الحقيقة الدروس التي لا تُنسى، والنار التي تصهرنا لنكون بشرًا بكل ما في الكلمة من نقص، وعمق، وشغف لا يموت.