آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

بيت فيه Wi-Fi… وليس فيه حياة

عبد الله أحمد آل نوح *

أكتب هذا المقال وأنا أب يرى أبناءه يكبرون بين شاشتين: شاشة الحياة، وشاشة الهاتف… وأخشى أن تكسب الثانية الجولة.

لم يعد الهاتف مجرد جهاز نحمله، بل أصبح عالمًا نحمله معنا أينما ذهبنا. وقبل أعوام قليلة فقط، كان اللعب في ساحة المنزل هو المتنفس، أما اليوم فأصبحت الشاشة الملاذ الأول للأبناء. في زمن تحوّلت فيه التقنية من مجرد وسيلة إلى أسلوب حياة، أصبح الهاتف الذكي الصديق الأقرب للأطفال، وصارت شبكة ال Wi-Fi بوابة عبورهم إلى عالم واسع من الترفيه والتواصل، حتى بات غياب الإنترنت في البيت يُشعر بعضهم بغياب الحياة. لم يعد القلق من خروج الأبناء خارج المنزل، بل من دخولهم إلى عالم افتراضي يعزلهم تدريجيًا عن محيطهم الأسري وهم بين جدرانه. تتراجع لغة الحوار العائلي أمام الشاشة، وتتقلص جلسات الأسرة لصالح التواصل الرقمي، حتى صار بعض الأطفال يحفظون أسماء شخصيات الألعاب الإلكترونية أكثر مما يعرفون أقاربهم، ويقضون ساعات طويلة في محادثات افتراضية بينما يكتفون بكلمات معدودة على مائدة الطعام. والأسوأ أن الهواتف أصبحت ترافقهم في غرف النوم ودورات المياه رغم التحذيرات الطبية التي تشير إلى مخاطر ذلك على صحتهم الجسدية والنفسية، وكأن الجهاز لم يعد أداة عابرة، بل امتدادًا طبيعيًا للذات لا يمكن فصلها.

وتشير دراسات تربوية حديثة إلى أن متوسط جلوس الأبناء أمام الشاشات تجاوز ساعات الحوار مع الأسرة بأضعاف. لكن المشكلة ليست في طول ساعات الاستخدام فقط، بل في قصور البديل الواقعي. أبناء اليوم لا يهربون إلى الأجهزة لأن العالم الرقمي أجمل بالضرورة، بل لأنهم لم يجدوا في الواقع ما يشدّهم بالقوة ذاتها. إنهم يحتاجون إلى حضور حقيقي من الوالدين أكثر من حاجتهم إلى سرعة اتصال أعلى، ويحتاجون إلى علاقة تمنحهم الاهتمام قبل أن تمنحهم التوجيه. فالتربية في زمن ال Wi-Fi لا تبدأ عند إطفاء الجهاز، بل حين نشعل قلوبهم بنا، ولا تتحقق بالمنع فقط، وإنما ببناء بيئة تمنحهم حياة يشعرون فيها بأن البيت ليس محطة شحن للهاتف، بل محطة شحن للمشاعر.

«لا تجعلوا الشاشة أقرب لأبنائكم من صدوركم.»

فالتقنية قادرة على تزويدهم بالمعلومة، لكنها عاجزة عن منحهم القيم، وتستطيع أن تعرّفهم إلى العالم، لكنها لا تعرّفهم إلى أنفسهم، ولا إلى من يحبّهم بصدق. إن الحل يبدأ بإعادة الروح إلى المنزل، بالحوار لا بالمحاسبة، وبمشاركة الأبناء لحظات الحياة بدل مراقبتها عن بُعد. فالتربية اليوم تعني أن نجلس معهم لا بقربهم وهم منشغلون بأجهزتهم، وأن نقدّم لهم واقعًا أجمل من افتراضهم، وأن نكون نحن الصديق الأقرب قبل أن تتولى الشاشة هذا الدور.

التقنية ليست عدوًا، لكنها قد تتحول إلى منافس حين تغيب حرارة العاطفة. وما يُخشى اليوم ليس أن يعيش الطفل على الشبكة، بل ألا يعرف كيف يصنع شبكة علاقات حقيقية داخل بيته. وقد ننجح في تقليل ساعات استخدام الهاتف، لكن الأهم هو أن نزيد ساعات استخدامنا نحن في حياة أبنائنا. فالتقنية قد تمنحهم اتصالًا بالعالم، أما نحن فعلينا أن نمنحهم اتصالًا بالحياة، فالأبناء اليوم لا يحتاجون إلى إنترنت أسرع، بل إلى محبة أعمق، وحضور أكبر من الوالدين.

ولعلّ أخطر ما يمكن أن نواجهه هو أن نكتشف متأخرين أن أبناءنا كانوا يطلبون حضورنا، بينما كنا نظن أنهم يطلبون أجهزتهم. إن معالجة المشكلة اليوم أسهل بكثير من تركها تكبر حتى تتحول إلى فجوة حقيقية بين أفراد الأسرة، فجوة لا تُرمَّم بالنصائح ولا بالوقت. لهذا، فإن مسؤوليتنا كآباء وأمهات تبدأ الآن، لا غدًا، بإعادة التوازن داخل بيوتنا، ومنح أبنائنا ما يكفي من الحوار والاهتمام والحضور قبل أن يبحثوا عنه في أماكن أخرى. فالأطفال لا يحتاجون إلى معجزة… يحتاجون فقط إلى والدين يسبقون الشاشة إلى قلوبهم، ولا يتأخرون عنها في اللحظة التي يحتاجون فيها إلى يدٍ تمسكهم قبل أن يفلتوا نحو عالم لا نعرف حدوده.

عضو مجلس المنطقة الشرقية ورجل أعمال