آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

إضاءة من تحت الرماد

عبد الواحد العلوان

في يوم لا يشبه معتاد الأيام، وفي ساعة لا تشبه الزمان، وفي مكان تتجلى فيه اللحظات ليصبح لا يشبه أي مكان..

تخترق حياتك عدة ظروف، كأن تكون مستقرًّا ماليًّا، وكأن تكون مستقرًّا أسريًّا، وكأن تكون مستقرًّا وظيفيًّا، حتى تبدأ رحلة الحياة بالانعطاف قليلاً لزاوية كاملة الدوران، قد تتجاوز 360 درجة دوران..

هي الحياة بشكلها وبظروفها وبطبيعتها غير دائمة، والمتحركة بشكل أو بآخر، تجعل استقرارك على وتيرة واحدة شبه مستحيل، فلن تبقى تعيش كامل سنوات حياتك على نفس النمط، ونفس الروتين، إلا حين تحدث أحداث تبدو للوهلة الأولى أنها أحداث مفاجئةٌ، وغريبةٌ عليك..

في لحظة هي التي تتغير أنت، ويتغير كل شيء من حولك، بمجرد أنك قررت أن تسابق الزمان في بناء ذاتك، وحياتك، وأدواتك الخاصة التي تدفع بها عجلة التنمية لتطوير حياتك، والتي تمر بها عبر ظروف وأشخاص وأنماط ومواقف، قد تبدو أنها جديدة بعض الشيء، ولكن اختلاف المذاق والنكهة يبقى راسخًا لفترة طويلة في فمك، إن كان ذلك المذاق مُرًّا لا يمكن نسيانه..

تعصف رياح التغيير لتختارك أنت من بين العشرات، أو المئات، أو الآلاف من البشر من حولك، ومن محيطك، ومن بيئتك الخاصة أو العامة، بيئتك القريبة أو البعيدة؛ لتقودكَ مسارًا يغير كل ما حولك، ويبدأ فصل الخريف مبكرًا، ليسقط الكثير والكثير من أوراق حياتك الرَّتيبة، والمتزامنة والمنسجمة؛ لتبدأ أنت في رحلة البحث عن شاطئ وميناء يحميك من عواصف الأمواج العاتية التي تكاد لا تعرف الهدوء، ولا تعرف الاستقرار قبلها ولا بعدها..

مضت تلك الرحلة على عجل، وذهبت أنت فيها كبش فداء، كنت للوهلة الأولى مستقرًّا في حياتك، لديك حزمة طموح، وحزمة آمال، وحزمة أهداف، تصلها تدريجيًّا، ولكن للأسف الشديد ما إن بدأت العاصفة، حتى وجدت نفسك مواجهًا أعداء النجاح، متملقًا لأشخاص لا ينتمون لفكرك ولا طريقة تناولك للحياة، ومتعجرفًا وقاسيًا مع أشخاص كانوا يظنون أن اللحم جميعه لحم طريٌّ شهي المأكل..

لم يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى وجدت نفسك مكبلاً بالقيود، والحدود أصبحت قيودًا، تكاد لا تستطيع عبور خمسة كيلومترات، لا سفرًا برًّا ولا بحرًا ولا جوًّا، بعثرتك الحياة وبعثرتك جميعها في محيط صغير المعنى، عظيم الجرح، غزير الوجع، لا تكاد أن ترفع رأسك حتى تستقيم وتلتقط أنفاسك، إلا بأنواع السهام والرماح والطعون والمواقف التي تسببت بحفر عميقة داخلكَ الضعيف..

مرت الظروف ولا تزال تهب نسائمها، ما بين الحين والآخر، ولا تزال الأوجاع عميقة، ولكنها بدأت في التشافي، ولا تزال الجراح غزيرة ولكنها تميل للضماد، ولا تبرح أصوات الأنين والخوف بداخلك، تنتابك ما بين الحين والآخر، جراء ما خلفته العاصفة، اختلطت عليك الأجواء والطقس، فأصبحت لا تميز بين برد قارس في فصل الصيف، وشتاء جاف في فصل الشتاء، وخريفٍ مصفرِّ اللونِ باهتٍ في فصل الخريف، وربيع عمرك الذي توكَّأْتَ عليه، لم يبقَ سوى اسمه ربيع..

ظروف الحياة يا سادة، معترك حقيقي، حينما نتواجه والأصدقاء، والعين تلتقط النظرة، وترى وتشاهد أعين الأحبة، ويسألك السائل: «وش فيك متغير، ومزاجك تعبان، ومالك خلق؟»، بكل بساطة لا تجيب على أسئلته، أو استفهاماته التي قرأها في محياك، وشاهدها نظرةً وجهًا لوجه، لا تجب فقط اصمت قليلاً، وقل ثلاث مرات زفيرًا: آه.. آه.. آه، ازفر الآهات والتنهيدات التي تتفجر بداخلك العميق، وأخرجها لتتنفس الصعداء وتلتقط أنفاسك..

تتذكر أنك كنت مستقرًّا في منزلك وسط أسرتك، وسط بيئتك الجميلة، تتذكر أنك كنت مستريح البال، ولديك الكثير من المال، والكثير من الوقت الجميل والكثير من الأصدقاء الرائعين، تتذكر أنك وصلت للمرحلة الملكية التي كنت تظن أنك سوف تستقر فيها طويلاً، ولكن ما إن تداخلت الظروف حتى وجدت نفسك، منهكًا، متوعكًا، وسط عواصف من الظروف التي لا ناقةَ لك فيها ولا جمل، سوى أنك طالبت بأبسط حقوقك وهي ”العدالة في أن تعيش حياتك وفق خياراتك واختياراتك وطموحاتك“، وبمطالبتك بحقوقك في حق الحياة باختيارك كلفك الكثير من الوقت والجهد والمال والسنين، لتقف عاجزًا عن درء المخاطر والمكروه والسوء عن حياتك وفكرك ونفسيتك..

أن تبدأ من جديد، وتضيء كالجمر من تحت الرماد، هذا وحده يتطلب منك سنينًا طويلة، وعقودًا من الأمل، وبأسًا شديدًا، وثقة بالله وإيمانًا ويقينًا، بأن العوض قادم قادم لا محالة، وأن ما مضى مضى مع رياح التغيير، وأمواج العواصف التي عبرت حياتك في الماضي والحاضر القريب، أن تضيء من جديد كنجم يرشد التائه، تحتاج فسحة من التوكل على الله، والاعتقاد بالإيمان الراسخ أن الله إذا أعطى أدهش، وإذا منع فمنعه لطف ورحمة، وإذا جنبك مكاره السوء التي ربما تراها زينة، وجمالاً وسعادة، وهي الحياة تتزين لك وفي نظرك، ولكنها تغريك ولربما تضيع حياتك أكثر، وتضيع باقي أيامك بلا شعور منك، ولكن إضاءتك هي النور الذي يهديك للطريق ويهدي الكثيرين ممن يقتدون بك، إن نجحت في تجاوز الأزمات والبعثرات والآلام..

الأمل الذي تنتظره لا تنتظره، بل بادر بالسير إليه، والنور الذي تود أن تراه يشع كالشمس في عينيك وفي أيامك وحياتك، بادر أنت لتصنع السراج الوهاج، وتبدأ في أن ترسم صورة جديدة في لوحة جميلة كأنها بستان من الطبيعة والمياه الجارية، لترى كيف أن الله سبحانه وتعالى يغير الأقدار؛ بعدما تغير أنت ما في داخلك ونفسك، وتغير ما في تفكيرك، لتلحق بالركب والمجد والطموح الذي أنت تود أن تكون عليه، ويكون محطتك الرائعة والعظيمة التي تستقر فيها لتعلن الانتصارات على عقبات وعثرات الحياة.