آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

غبار الزوايا

سراج علي أبو السعود *

يُقال - مع شيء من التصرف - إن شخصًا لو دخل بيتًا ولاحظ غبارًا متراكمًا في زاوية بعيدة عن أعين الناظرين، فالأجدر به أن يخرج ولا يعود؛ لا لأن البيت فيه غبار، بل لأن قلبه مُصاب بداء البحث عن المثالب، ولأن البيوت لا يليق بها أن تُدنَّس بأصحاب العيون التي لا ترى إلا العيوب. وفي مسرحية مدرسة المشاغبين يلخّص مرسي بن المعلم الزناتي هذا الداء حين يقول لبهجت الأباصيري:

«أأعد جنب أمي: تتتت… وفلانة طبخت وفلانة خبزت وفلانة بتسيب جوزها… أخبص خبصة أنا وأمي.

طول ما إحنا أأعدين جايبين سيرة الناس، ورانا إيه؟!

وفي النهاية تئول: مالناش دعوة! دع الخلق للخالق».

هذه الخصلة - خصلة تتبّع العثرات - تكاد تكون ظاهرة عالمية تتشابه فيها المجتمعات على اختلاف ثقافاتها، سواء في الحياة الاجتماعية أو في بيئات العمل. ودافعها الحقيقي - كما أعتقد - نقص داخلي يحاول صاحبه ملأه بالانتقاص من الآخرين، وكأنما يعالج جرحه الداخلي بجرحهم.

أظن أن البشر يشبهون الطرقات وقت المطر؛ فهناك طريق مليء بالحفر التي تمتلئ بالماء ساعة الهطول، وطريق آخر مستوٍ لا تبقى عليه قطرة واحدة بعد العاصفة. وكذلك الناس: فئة إن سمعت أو رأت عيبًا في أحد احتفظت به كما تحتفظ الحفر بماء المطر، لأن النقص الكامن فيها يبحث عما يملؤه. وفئة أخرى لا يعلق في أسماعها ولا أبصارها شيء من ذلك؛ لأنها ببساطة لا ترى في انتقاص الآخرين سدًا لنقص أو تعويضًا عن عجز. والحديث عن هذا السلوك قد يبدو بديهيًا، لكن اللافت فيه هو حالة الاستظراف التي تحيط ببعض من يستمرئون إعابة الناس، وكأنهم يؤدّون لونًا من الفكاهة. وتزيد هذا المشهد رسوخًا الدراما الكوميدية في كثير من دول العالم، إذ تصوّر السخرية على أنها مادة للضحك، وتقدّم المتنمّرين بصفتهم أصحاب نكات، بينما الحقيقة أنهم أحوج ما يكونون إلى المواجهة: مواجهة صلبة وصريحة تهزّهم من الداخل لعلّهم يفيقون. أما غير ذلك، فهو تشجيع غير مباشر ليستمروا في طريقتهم.

أتحفّظ شخصيًا على قول الشاعر:

العلم يرفع بيتا لا عماد له
ويهدم الجهل بيت العز والشرف

فالواقع أن العلم إذا انفصل عن الأخلاق لا يرفع بيتًا ولا يقيم لصاحبه قدرًا. كما أوافق إلى حدٍّ ما من قال:

لو كان في العلم من غير التقى شرف
لكان أشرف خلق الله إبليس

فإبليس - وإن كان يعرف - لم يكن ليبلغ شرفًا لأنه عصى أمر ربه، بل إن المعرفة وحدها من دون تقوى لا تجعل صاحبها من أشرف الخلق. وهذان المثالان معًا يؤكدان أن التقوى والأخلاق هما الأساس الأهم في تقييم الإنسان، وأن من يتجاوزهما ويتغذّى على تتبع الزلات والبحث عن العثرات إنما يكشف وضاعة في داخله قبل أن يكشف عيبًا في غيره. وعلى هذا المعنى، فإن تحويل سير الناس وعيوبهم وزلاتهم إلى كوميديا تُتداول على الألسنة جريمة أخلاقية لا مبرر لها، والساكت عنها أو الضاحك عليها - شاء أم أبى - شريك في هذا السلوك.