آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

التقاط أنفاس

في خضم الحياة تتداخل الأصوات وتتشابك الأحداث بما يُغيّب النفس عن أهم الحقائق، كما أن الهدوء النفسي والطمأنينة غاية قد لا يدركها الكثير مع تعلّقهم بحطام الدنيا الزائل وعزوفهم عن الاستعداد ليوم الحساب ونشر صحائف الأعمال، ولعل البعض يهوى حياة تغيب عنها حمائل المسئولية وينطلق في ميادين الحياة لهثا خلف أهواء نفسه، ولكنه يمضي مع طي الأيام سجلا دون سابق إنذار ليعلن عن نهاية غير متوقعة، وهذا ما يدعونا إلى روية ووقفة حساب وتأمل تحضر فيها تصرفاتنا تحت مجهر التدقيق وتحمل مسئولية الأخطاء والتقصير، فتغيب عن أفئدتنا تلك السكينة التي لا تُمنَح إلا لمن توقّف لحظة وأصغى لصوت قلبه قبل ضجيج العالم، أناس يلوذون بمعاهدة النفس في لقاء هادئ ومتزن ونقي من غبار التهور والغفلة والانفعالات غير المحسوبة، إن هذه الوقفة تهب الإنسان فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة الإمساك بزمام الأمور والتحكم العقلاني بها، وتستعيد النفس ألقها وصفاءها بعدما كدرتها الأيام بألوان الهموم والآلام المتعدّدة.

اللقاء الجدي مع النفس ليس مجرد ترف يُنظر إليه بعين الكماليات والأمور الهامشية والسقوف العالية لأهداف بعيدة المنال، بل هو بناء متكامل يبدأ من تأسيس قواعده المبنية على الصدق والصراحة وإفساح المجال لإعادة تشكيل وصياغة الشخصية بعيدا عن البهرجة والسرابية، وتحرك مدروس بخطى ثابتة للتقدم نحو الأفضل بعد التخلص من نقاط الضعف ومواطن النقص، وما أجمل أن يفتح الفرد نافذة النفس ليشرق عليها نور الهداية والمعرفة، فما أحوجه إلى مجلس من الوعظ والإرشاد يذكّره بأن له روحا لا تقلّ حاجة عن بدنه، وبأن في داخله بستانا لا يورق إلا حين يُروى بكلمة طيبة أو فكرة مُلهِمة أو لحظة تأمل صادقة تعيد ترتيب الفوضى الخفية في الذاكرة وخريطة السلوكيات.

ولِمَ لا يكون لنا مع الكتب والمجالس المفيدة موعد ثابت نحيا في دقائق معرفية نفتح فيه صفحات المواعظ والتبيان، ففي تلك الصفحات نور خفيّ يلمس القلب فيوقظه، فالعلاقة بالله تعالى تصاب بالعَطَب والخلل في لحظات الغفلة وممرات الانشغالات اليومية الكثيرة، فإن الذنوب مهما صغرت تترك غبارا على الروح والغفلة حين تطول تُقسي، ولا شيء يجلّي هذا الصدأ مثل قراءة تُحرّك الوجدان وتُذكّر بأن للحياة وجها آخر أكثر إشراقا.

نسأل أنفسنا: إلى متى نبقى أسرى التفكير في الدنيا، نعدّ مكاسبها ونحصي خسائرها؟

فلنقف مع ذواتنا وقفة جادة وهادئة نُعيد فيها توجيه البوصلة، فنستعيد ذلك الضوء الداخلي الذي يخفت كلما تراكمت علينا مشاغل الحياة، فبناء الذات لا يحدث دفعة واحدة بل ينهض خطوة تلو الأخرى، تلك هي الرحلة التي تستحق أن نبدأها ونعمل من أجلها إنها رحلة العودة إلى أنفسنا.