آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:21 ص

سأظل أكتب

فوزية الشيخي *

قبل عدة سنوات حدث معي الكثير من المواقف، أذكر منها موقفاً لم يبرح ذاكرتي يوماً، أتذكره في كل لحظة، وعندما أذكر تفاصيل ذلك الموقف أبتسم ابتسامة عريضة كلها رضا وانتصار وإيمان بجبر الخالق لي بكل موقف مر بي. ذلك الموقف حدث عندما كنت في مقر عملي القديم.

كنتُ أجلس وقت الاستراحة منفردة، أحتضن مذكرتي الصغيرة بين يدي كما يحتضن القلب أسراره، وأمارس هوايتي الأقرب إلى روحي: الكتابة. تلك المساحة الصغيرة التي أهرب إليها كلما ضاق العالم، وأتخفّف فيها من ثقل الأيام وضجيج الحياة. في اللحظة التي يبدأ فيها قلمي بالوقوف على الورق أشعر بأنني أتنفّس بطريقة أكثر صدقاً، كأن العالم كله يتقلّص ليصبح سطراً أو فكرة أو نبضاً صغيراً يختبئ بين الكلمات.

لكن… لم يطل هدوئي كثيرا.ً

اقتربت إحداهن من المكان الذي أجلس فيه وهي تتصنّع الابتسام، وبضحكةٍ باردة لا تحمل خفة المزاح بل ثقل الغيرة، لتطلق تعليقاً ساخراً تتهكّم فيه على ما أفعل، وكأن الكتابة جُرم أو عبث لا يستحق احتراماً. نظرت إليّ بازدراء خفيف، كأن ما أفعله مضيعة وقت، أو محاولة يائسة لخلق عالم لا يراه سواي.

لم تكن تكرهني، لكنها كانت تخشى أن ترى بي ما تريده لنفسها ولا تستطيع الوصول إليه. فبدل أن تمدّ يداً تشجّع، مدّت لساناً يسخر. وبدل أن تُظهر إعجاباً، أظهرت امتعاضاً. كانت تظن أن الاستهزاء قادراً على إطفاء شرارة حلمي، وأن الكلمات المحبِطة ستثنيني عن السير في الطريق الذي اخترته.

تصرفها ذاك غير المهذب معي لم يغضبني بقدر ما كشف لي حقيقتها. فالشخص الذي يسخر منك ليس قوياً، بل ضعيفاً ودائماً ما يحاول إخفاء تصدّعه الداخلي. والشخص الذي يستهزئ لا يملك من الطموح ما يكفي ليُشغل نفسه بما ينفعه، فينشغل بغيره ليملأ الفراغ الذي يعيشه.

في تلك اللحظة شعرتُ بأن السخرية لم تُوجَّه إلى هوايتي فقط، بل إلى عالمي الداخلي كله. ومع ذلك، لم أُغلق مذكرتي. لم أتراجع. لأنني أعلم أن الذين يتهكّمون غالباً لا يرون ما نراه، ولا يشعرون بما نشعر به، ولا يدركون قوة الأشياء البسيطة التي تمنحنا حياة إضافية رائعة.

هي لم تكن تعلم أن الأحلام التي تُبنى بالإيمان لا يسقطها تعليق عابر ولا نظرة مستفزة.

لقد تعلّمت من ذلك الموقف أن السخرية ليست حكماً علينا، بل مرآة لجهل الآخرين.

فالكتابة ليست مجرد هواية، بل هي شيء أعمق من ذلك بكثير.

ولأنني أدرك جيداً أن الكلمات هي طريقتي الخاصة في البقاء، لم أسمح لسخريتها بأن تهزّ يقيني. فكلٌّ منا يحمل بداخله مساحة لا يحق لأحد أن يقتحمها أو يحكم عليها.

وكل موهبة مهما صغرت ما هي إلا بذرة قد تُثمر يوماً إن وجدت يداً تؤمن بها، لا لساناً يسخر منها.

بعدها أدركت شيئاً ثميناً

لقد حاولت تلك الشخصية أن توقفني، لكنها من حيث لا تدري دفعتني خطوة أخرى إلى الأمام. فقد عرفتُ أن قوتي ليست في كلماتي، بل في صمتي الذي يردّ عليها بالإنجاز، وفي تقدّمي الذي يُخرس السخرية أبلغ من أيّ جواب.

كان ردي لها هو أنني اليوم أكتب أكثر من أي وقت.

أكتب لأثبت أن ما يهمّ حقاً ليس نظرة الآخرين، بل صدق ما نصنعه بأيدينا وما نشعر به بقلوبنا.

أكتب لأن الكتابة كانت وستظل ملاذي، حتى لو وقف العالم كله يتهكّم على ذلك.

وفي النهاية تعلمتُ درساً عميقاً:

إن النجاح لا يُقاس بردود أفعال الآخرين، وأن الطموح لا يحتاج إلى تصفيق الجميع، بل إلى يقين صاحبه. وتعلمت أن الطريق نحو الأحلام لا يخلو من أصوات مزعجة تحاول تشتيتك، لكن الصوت الأقوى يجب أن يكون صوتك أنت.

لم أعد أغضب من غيرة أحد، لأن الغيرة ليست سوى شهادة نجاح تصدرها النفوس الضعيفة دون أن تدري. أما أنا، فسأظل أمضي نحو أهدافي، ونحو طموحي محلقةً بهما عالياً… لا لأنني الأفضل، بل لأنني أؤمن أن الطريق لا يصنعه إلا من يسير فيه بثبات، مهما علت حوله أصوات المحبطين.