آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

السعودية وأمريكا بين زيارتين: الترليون دولار تُضَخ إنفاقاً لكي تُسترد نمواً «5»

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال

يستجلب إنفاق الترليون دولار التقنية والخبرة وسلاسل التوريد المحلية إلى السعودية، وسيكون لذلك تأثير على زيادة مساهمة الأنشطة غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي تحديداً من خلال: خلق الوظائف، وتحسين الإنتاجية، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وزيادة وتنويع صادرات السلع والخدمات، لكن قبل تناول تفاصيل الترليون دولار، أعرض لمفهوم اقتصادي تعايشه العديد من البلدان، مما يمكن أن يُسمى ”منطقة راحة الاقتصاد“ «economy comfort zone»، من باب ”إن كانت تعمل فلا تحركها“ أو ما يعرف في مفهوم الاقتصاد الكلاسيكي بـ ”التوازن الرديء“ «Bad Equilibrium».

والتوازن الرديء «أو ”التوازن المنخفض“ - Low-Level Equilibrium Trap» تناوله الاقتصادي الفذ جون ماينارد كينز في كتابه ”النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود“ «1936»، ثم طوّره لاحقًا اقتصاديون مثل ريتشارد نيلسون «1956» في سياق الدول النامية، وهو حالة يستقر فيها الاقتصاد عند مستوى منخفض من النشاط والنمو والرفاهية، رغم أن بإمكانه الخروج إلى مستوى أداء أعلى وأكثر ازدهاراً، لكن القوى الاقتصادية والمؤسساتية تُبقيه قابعاً «وربما راضياً» في هذا المستوى المنخفض، وأسباب الوقوع في ”التوازن الرديء“ نقص الطلب الفعال، وهذا يعني أن المستهلكين لا ينفقون بما فيه الكفاية، فينخفض الطلب، فيتراجع الإنتاج، مما يؤدي إلى بطالة وبالتالي انخفاض الدخل، مما يؤدي بدوره إلى مزيد من انخفاض الطلب وهكذا في حلقة مدمرة للاقتصاد.

وعملياً أخرجت رؤية المملكة 2030 الاقتصاد السعودي من منطقة راحتهٍ إلى منطقة تحدي الذات ليحقق طموحات عالية ومستهدفات كمية - كان يُظَن أنها بعيدة المنال - في نطاق زمني محدد، لكن الرؤية لم تخرجه إلى العراء بل وفرت ممكنات، منها أنها عبأت ”القوة الاستثمارية“، بتوجيه رأس المال السيادي «الدولي والمحلي» وفقاً لاستراتيجية وطنية للاستثمار تدار وفق حوكمة صارمة بلجنة عليا للاستثمار يرأسها سمو ولي العهد، وكذلك أعادت هيكلة صندوق الاستثمارات العامة ووضعت له استراتيجية وحوكمة برئاسة سمو ولي العهد، كل ذلك لتحقيق نمو اقتصادي مستدام يرتقي بدخل السكان ويولد فرص عمل، وكذلك يعزز النفوذ الجيوسياسي، ويرفع القدرة التنافسية عالمياً.

هذا المسعى المتسق طويل المدى هو لتقوية قدرة الدولة على تحويل رأس المال المتاح إلى نشاط اقتصادي وبالتالي إلى قيمة مضافة للاقتصاد، عبر توظيف رأس المال السيادي المتاح من خلال الصندوق السيادي واحتياطيات النقد الأجنبي وفوائض الميزانية العامة، وقدرة الدولة على توجيه الاستثمارات استراتيجياً إلى قطاعات المستقبل كالأنشطة الاقتصادية التقليدية الغائبة كالترفيه وتلك البازغة كالذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات واللوجستيات والدفاع، والنفوذ الجيوسياسي عبر الاستثمار باستخدام العلاقات لكسب الحلفاء وتمركز سلاسل الامداد والحصول على التقنية المتقدمة، والمرونة والسرعة في اتخاذ القرار وحوكمة الفرص، والقدرة على استيعاب المخاطر طويلة الأجل، وامتلاك الميزة التنافسية لجذب الاستثمارات الأجنبية للاقتصاد المحلي.

وعلى الرغم من ضخامة ”الترليون دولار“ حتى بالنسبة للاقتصاد الأول «أمريكا» فقوام ناتجها المحلي الإجمالي لا يتعدى 28 ترليون دولار بالأسعار الجارية، مما يستوجب سؤالاً: هل تحتاج السعودية لهذا الكم من الانفاق خلال أربع سنوات؟ للإجابة أستعين بما بينه سمو ولي العهد في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقد بالأمس «18 نوفمبر 2025» في البيت الأبيض، عندما أجاب سؤال أحد الصحفيين: ”نحن لا نقوم بالاستثمار لإرضاء أمريكا أو الرئيس ترامب، نحن نرى فرص حقيقية هنا تعود علينا بالفوائد“. ولوضع الترليون دولار في سياقه، علينا تذكر أن المستهدف - من وجهة النظر السعودية - هو توسيع الاقتصاد السعودي، ولنتذكر أنه إبان إطلاق ولي العهد للاستراتيجية الوطنية للاستثمار قبل أربع سنوات «أكتوبر 2021» أعلن ان تحقيق الاستراتيجية يتطلب مضاعفة الاستثمارات تراكمياً إلى 12.4 ترليون ريال، ولنتذكر أن الضخ الاستثماري في الاقتصاد السعودي منذ العام 2019 حتى منتصف العام الحالي «2025» هو استقطاب استثمارات للاقتصاد السعودي «إجمالي تكوين رأس مال ثابت» بقيمة 7.3 ترليون ريال «أي 59 بالمائة من المستهدف». وهذا الضخ الاستثماري مطلوب لتنويع وتوسيع الاقتصاد.

أما مستقبل الاقتصاد فيقوم اجمالاً على توسيع سعة الاقتصاد السعودي من حيث البنية التحتية وتحول الطاقة بما في ذلك الطاقة الذرية، ولذا نجد ان هذا البند يقدر أن يستأثر بما قد يصل إلى 30 بالمائة من الترليون دولار التي أُعلن عنها بما في ذلك 20 مليار لمراكز طاقة للشركة السعودية ”داتافولت“ «Datavolt»، ونحو 20 بالمائة من الترليون دولار للطاقة المتجددة لتحقيق مزيج طاقة 50 بالمائة منه طاقة متجددة في العام 2030، وتقدر تكلفة مشاريعها بنحو 350 مليار ريال، وقرابة 20 بالمائة من الترليون دولار للتقنية والذكاء الاصطناعي، و 20 بالمائة من الترليون دولار للدفاع والفضاء، و 10 بالمائة من الترليون دولار لقطاعات الصناعة التحويلية والرياضة والترفيه. وبالقطاع هذه تقديرات أولية مصدرها قصاصات صحفية، لكن النفطة الأساس هنا أن الانفاق هو لاستقطاب تقنيات وقدرات تمكن الاقتصاد السعودي من النمو، فمثلاً: كيف يمكن لقطاع التقنية والذكاء الاصطناعي السعودي أن يتطور بدون مساعدة الشركات الأمريكية؟ وكيف لمفاعلات الطاقة الذرية للاستخدامات السلمية أن تنشى على أرض المملكة بدون دعم تقني من دولة تمتلك مفاتيح تلك التقنية؟

وهكذا، فضخ ترليون دولار للاستثمار والتزود من المنتجات الأمريكية يقابله فوائد للمملكة من حيث توفير أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية، بما يُمَكن السعودية من تحقيق طموحها بأن تتحول إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي بحلول 2030، الامر الذي سيخلق عشرات الآلاف من الوظائف التقنية عالية المهارة والأجر، كما أن تحقيق مستهدفات الطاقة المتجددة بأقل تكلفة عالمية وأسرع وقت سيحد من استخدام قرابة مليون برميل يومياً من النفط الخام لتوليد الكهرباء، مما يوفر 30-40 مليار دولار سنويًا من النفط للتصدير.

ومن منظور اقتصادي، فهذا الانفاق الضخم هو من ناحية توظيف للقوة الاستثمارية للسعودية، وهي لقوة التي تفتقر لها الكثير من الدول مما يحد من قدرتها على التحرك اقتصادياً، ومن ناحية أخرى أنه انفاقٌ بوسع الاقتصاد السعودي أن يسترده نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بالتدريج حتى العام 2030 وما بعد، عبر رفع وتيرة التنويع ونمو الأنشطة غير النفطية، ومن باب الاستشهاد يشير محللون «مثل ستاندرد آند بورز جلوبال» إلى أن الجهود التي يقودها صندوق الاستثمارات العامة قد رفعت بالفعل حصة الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى 56 بالمائة في عام 2025، ارتفاعًا من 40 بالمائة في عام 2016.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى