آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

جمالية الحزن وفوضى المشاعر...

إهداء إلى: صديقي المسافر حميد السيف

جعفر العيد

- 1 -

للحزن فرقعة وجمالٌ تفوق خيال العارفين، من فرطِه يكاد يحلق بنا في الفضاء.

الحزن كما الصباح في انبلاجه، له روعة لا تضاهيها روعةٌ عند هذه الأحصنة.

الريح الشمالية تعوي وتصفعنا، والجو باردٌ كالثلج، وقلوبنا يهزّها الابتهاج، عندما نراها لم تتعب من طول الهمام والتجوال.

- 2 -

تدغدغك النسائم التي تهب مع الربيع، متأملًا كل تلك القوة، صديقي، وهذه الانحناءات المخلوقة بانتظام؛ سبحان الخالق.

هذه الجدائل المنسدلة سوداء موشاة باللون الكستنائي، مشوبة بألوان ذهبية، كلما تساوقت وتماوجت مع الريح، أغرتنا إغراءً عجيبًا بالنظر إليها.

اليوم حطّت، حنحنت، ثم زمجرت ورمت بأعنّتها.

هذه التي كانت دائمةِ الترحال والسفر.

هذه المساوقة… المقاومة لكل الصعاب من قتار وغبار ورمال ومياه وحجارة… وغيرها.

هذه التي كانت الأمل والمنى…

اليوم، يا صديقي، تبخر الأمل والمنى.

لم تنتهِ المشاوير… لكنها، أعلنت تعبها وأنهت السباق.

- 3 -

صحراويٌّ بدأَ، جافّ التقاطيع، خشن الملمس، مفتوح المساحة، كهذا الأفق الصحراوي.

تدرّج بشغف الإبداع الذي يعتمل في داخله، وانساب في تعرّجات واستدارات كثيرة، يتفتح فؤاده كما تتفتح الورود في البساتين. رنينُ حنينٍ، وأصوات خفية، وصراع يعتمل في داخله.

الأفق الخارجي مفتوح، كما هو مفتوح في الداخل، يوحي بالجراحات؛ هل يمكن التغلب عليها؟

- 4 -

رائحة مطرزة بالماء والسحاب والارتعاش، تطلّ الشجرة… والنقش شجو الابتهال… هذا ظلها أم صدى روحها؟

كحفيف الورق تلتاع روحه، تتفجر نافورة الآلام من داخله.

مليئة بألوان الفرح والغضب، الصحو والنعاس… أشياء يضرب بعضها بعضًا. يتأمل ما حوله، متناسيًا، متغافلًا، متشاغلًا عن حمى الأفكار التي راكمها، وغلفها، وركنها في واحدة من زوايا الدماغ.

- 5 -

هذه الأعشاش مأوى للعصافير، كل عش يحكي حكاية وشوشة، نغم أزرق كلون السماء، الضياء والضباب، والمطر أجنحة من الألوان المنمقة بإبداع؛ سبحان الخالق.

تفرّ الأطيار من هذه الأعشاش، عندما يكشفها ضوء الشمس.

بمساراتٍ تجتمع، وتتفرق بين الخوف والرجاء؛ لطلب الرزق على وجه الأرض.

أين تغدو هذه العصافير المبرقشة الرقيقة… أفق رحبٌ موشّى بزرقة… تلتقط هذه الطيور الحبَّ والثمر في أشكال دوارة كل صباح.

- 6 -

الشجرة… الشجرة كما العصافير تفتح أذرعها وتضمها كل مساء، كأم حانية على أولادها تخبئهم في قلبها.

تضج، تغني، تفرح، تحزن… سرعان ما تهدأ من صوتها وخرشَشاتها تاركة للمساء والظلام أن يخيم ويرخي سدوله على جميع الكون.

لتعود تفتح أذرعها عند شروق الضياء، وتتمدّد أفرعها إلى الهواء والضياء.

- 7 -

أي قُبّة أرى؟ تنهمر وتسحّ، وتختلط بنبات الحلم، خلائق وغرائب وغرف مضيئة، يشبّ لونها المشبوب بزرقة داكنة من شدو الابتهال.

يجيء المساء بظله الثقيل، تعود العصافير إلى أوكارها، يخيم الظلام؛ المطر، والضباب، والغمام ليكتم كل الأصوات.

في هدوء الليل تتسرب الصحراء إلى قلب المعنى؛ ليتيه في أحلام الليل. أحداق، أنفاس، آهات تتثاقل، يتسرب النوم والحلم كانزياح الزلّاقة بجسم الأطفال.

ترى ماذا تخبئ الفصول للشجر، وللعصافير؟ مخاطر محفوفة؛ حياة وآمال تتجدد، طلق ناري، مكائد، مصائد… شباك فزّاعة الحقول… خشبٌ مُسنَدة.

- 8 -

عندما أطلت علينا تلك الأحصنة، تطارد الريح، تثير الغبار، تملأ الصحراء صهيلاً… رديحًا، وحمحمةً.

هاجت… ماجت، ثم استدارت، أطلت بعيونها الواسعة علينا… وأقفلت مسرعةً، مغادرةً، مهاجرةً، هاربة من أحداقنا؛ الجو كان رماديًا ضبابيًا، مكفهرًا… السماء زرقاء مملوءة بالغبار والعتمة، ترسل علينا من فيضها حبات الندى… أوسعنا أحداقنا حتى غاب عنّا منظرها… ستعودين يومًا ما! «خاطبتها» ستعودين إلى هذه الأرض… حتمًا ستعودين يومًا ما.

اليوم عادت… اليوم عادت تلك الأحصنة من جديد.

كيف عادت بعد أن أبعدت وغابت طويلًا… كيف استدلت على الطريق؟ «لا أدري».

لماذا عادت؟ لماذا رحلت بالأمس القريب؟

نعم عادت، المهم أنها عادت.

كيف ستعيشين أيتها الخيول من جديد؟

هل يمكن أن يعود الغائبون بلا موعد؟

بين فرح وحزن وأمل، ودموع وفرح، عادت.

عيشي أيتها الخيول في هذه البرية الواسعة… حاربي أيتها الأحصنة وعيشي.

هذه الأرض تغيرت، نحن تغيرنا، تبدلنا، تعبنا… هرمت روحنا دفعة واحدة.

الغذاء… الماء قليل… العشب شحيح، والصحراء واسعة؛ تستطيعين البقاء كما تشائين… الرب الخالق يحميك، والسماء تحرسك.

- 9 -

أغرتك هذه الجدائل المنسدلة سوداء موشاة باللون الكستنائي، مشوبةً بألوان ذهبية، كلما تساوقت وتماوجت مع الريح، أغرتنا إغراءً عجيبًا بالنظر إليها.

اليوم حطّت، حنحنت، ثم زمجرت ورمت بأعنّتها.

هذه التي كانت دائمةِ الترحال والسفر.

هذه المساوقة… المقاومة لكل الصعاب من قتار وغبار ورمال ومياه وحجارة… وغيرها.

هذه التي كانت الأمل والمنى…

اليوم، يا صديقي، تبخر الأمل والمنى.

اليوم تراني صفرَ اليدين… مع بصيص أمل.

لم تنتهِ المشاوير… لكنها، أعلنت تعبها وأنهت السباق.

خيولنا أضناها التعب، وتراكمت عليها كثبان هذه الصحراء الثقيلة.

حقك في إعلان الحيرة، هذه الألوان ليست ألواننا، هي مشيئة الخالق في خلق القدرة على التماهي مع البيئة؛ صحيح أنها لا تشبه تلك.

تظل المهور واحدة وإن اختلفت ألوانها وأعمارها؛ الريح كاللهب تعوي، تكوي، تزمجر، تسحب كل من أمامها في الطريق.

الرمال القوية تدفن كل معالم الحياة.

كانوا بُداة هناك، صاروا بُداة متعبين هنا.

لكن الصحراء واحدة مهما تلونت.


من اليمين: جعفر البحراني، المرحوم حميد السيف، جعفر العيد.