آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

الفروقات الفردية

سوزان آل حمود *

تُعد الأبوة والأمومة رحلة فريدة، تُكلل جهودها بالحب والتفاني في سبيل تربية جيل صالح، قادر على مواجهة تحديات الحياة. غالبًا ما ينظر الآباء والأمهات إلى أبنائهم على أنهم امتداد لهم، فيسعون جاهدين لغرس أفضل الصفات فيهم، ويأملون أن يصبحوا نسخًا محسّنة من أنفسهم. ولكن، في خضم هذا السعي النبيل، قد يغيب عن الأذهان جوهر الفروقات الفردية، وهي حقيقة كون كل طفل كائنًا مستقلاً بذاته، له شخصيته الفريدة وميوله الخاصة التي لا ينبغي قمعها.

تلك الأبوة التي تحاول صبّ الأبناء في قوالب جاهزة، تشبه النحات الذي يصر على تحويل كل قطعة رخام إلى تمثال واحد فقط، بغض النظر عن شكلها الأصلي وخطوطها الطبيعية. إن الإصرار على أن يكون الأبناء نسخة طبق الأصل من آبائهم يضعهم تحت ضغط هائل. قد يجد الطفل نفسه مجبرًا على ارتداء ملابس لا تعجبه، أو اختيار تخصص دراسي لا يميل إليه، أو حتى تكوين صداقات لا تتوافق مع شخصيته. هذا الإجبار، وإن كان مصدره الحب والخوف على المستقبل، إلا أنه يولد صراعًا داخليًا لدى الأبناء، ويقودهم إلى مسارات لا تتوافق مع شغفهم الحقيقي.

إن التداعيات السلبية لهذا النهج التربوي عميقة ومؤلمة. عندما يُجبر الأبناء على التخلي عن هويتهم الحقيقية، قد يلجؤون إلى سلوكيات عكسية ومتمردة، ليس بدافع العناد، بل كمحاولة يائسة لاستعادة جزء من ذاتهم المسلوبة. وقد يؤدي هذا الصراع المستمر إلى تآكل الثقة بين الآباء والأبناء، وتفكك الروابط الأسرية. وفي أسوأ الأحوال، قد ينتج عن هذا الجيل أفراد بلا هوية أو شخصية، أشبه بالظلال التي تسير على خطى الآخرين، غير قادرين على اتخاذ قرارات مصيرية أو تحمل مسؤولية حياتهم، لأنهم لم يُمنحوا الفرصة أبدًا لاكتشاف من هم حقًا.

إن الثورة الحقيقية في فهم الفروقات الفردية تبدأ من الوعي بأن التربية لا تعني صقل نسخة من الآباء، بل تعني مساعدة الأبناء على اكتشاف ذواتهم الحقيقية وصقلها. دعونا نتبنى حكمة تقول: ”لا تربوا أبناءكم على أن يكونوا أنتم، بل ربوهم على أن يكونوا أفضل نسخة من أنفسهم“.

وهذا يتطلب منّا أن نكون آباءً مستمعين، لا مجرد آمرين. أن نجلس مع أبنائنا، ونتحدث معهم عن أحلامهم، ومخاوفهم، وشغفهم. أن نحترم اختياراتهم، وأن نوفر لهم مساحة آمنة للتعبير عن آرائهم دون خوف من النقد أو الرفض.

إن دورنا كآباء وأمهات هو تقديم النصح والإرشاد بحب وحكمة، لا بالضغط والإجبار. يمكننا أن نقدم لهم خبراتنا كبحر من الخيارات، ولكن القرار الأخير يجب أن يكون قرارهم. إن احترامنا لفردية أبنائنا هو أكبر هدية يمكن أن نقدمها لهم، فهو يمنحهم الثقة اللازمة للازدهار، ويساعدهم على بناء شخصية قوية وقادرة على المساهمة الإيجابية في المجتمع. فلنعمل معًا على إطلاق العنان لإمكانياتهم الفريدة، ولنثق بأنهم قادرون على شق طريقهم الخاص نحو النجاح والسعادة.