آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

بين التسامح والذل: أين يقف الإنسان؟

سراج علي أبو السعود *

يصادف يوم 17 نوفمبر من كل عام يوم التسامح العالمي. والتسامح - بعيداً عمّا يورده اللغويون والفلاسفة من تعريفات - يمكن فهمه عبر أمثلة حياتية بسيطة: فلو جاءك طفلك شاكياً أن أحد زملائه رمى عليه الآيسكريم، فليس من الحكمة أن توصيه بالردّ في الغد بالطريقة نفسها. وحين يخطئ عليك سائق في الطريق، لا معنى لأن تلاحقه حتى حدود دولة أخرى لتستعيد «حقك». مع ذلك، يظل سؤالٌ ملحّ يتقدّم هذا المشهد: هل يعني التسامح أن أتنازل عن كرامتي؟ وهل يُطلب مني أن أقدّم خدي الأيسر لمن يصفعني على الأيمن؟ هنا تتبدّى ضرورةُ التفريق بين التسامح وإذلال النفس، لأن كثيراً من الناس يخلطون بينهما، فيَرون في التسامح ضعفاً، وفي العفو تنازلاً غير أخلاقي.

يمكن تلخيص الفرق بين التسامح والذل في أن التسامح لا يعني غياب الموقف، بل هو اتخاذ ردٍّ حضاري يرفض السلوك المسيء دون الانحدار إلى مستوى الهمجية التي صدر بها. أما الذل فهو قرين الصمت التام أمام الإهانة، وعدم إبداء أي موقف، وهو في جوهره قبولٌ بالإساءة واستسلامٌ يفتح الباب لمزيد من التعدّي. وخطورة هذا المسلك أنه إن تكرّر، تحوّل الإنسان مع الوقت إلى ما يشبه الميت، كما قال المتنبي:

من يهن يسهل الهوان عليه … ما لجرح بميت إيلام

غير أن إشكالاً آخر يبرز هنا: ماذا لو كان المسيء ذا سلطة - مديراً في العمل، أو معلماً - بحيث إن أبسط ردّ قد يجرّ ضرراً كبيراً؟ في مثل هذه الحالات قد لا يكون الرد المباشر خياراً آمناً، ومع ذلك فإن لكل إنسان طريقة يمكنه بها التعبير عن رفضه بقدر من الحكمة والذكاء. وفطنة المرء تعينه على إيجاد الموقف الذي يحفظ كرامته دون صدام إذا كانت العواقب جسيمة. ومع هذا كله، فإن انسداد السبل يجعل الكرامة أَوْلى بالرعاية من أي اعتبار آخر.

في اعتقادي، إن قوة الإنسان تكمن في قدرته على التسامح، بينما يميل الضعيف إلى تخزين الأحقاد والسعي الدائم للانتقام. هكذا كلما امتلأ القلب بالضغائن ضاق الصدر عن الحكمة واتزان النظر. نعم، يبقى التمادي في الظلم أمراً آخر قد يصدق عليه القول: الساكت عن حقه شيطان أخرس، ولا يدخل في ميزان العفو اليومي. أما ما عدا ذلك من خلافات البشر وصغائرهم، فإن أرجح الناس عقلاً هو من يترفّع عنها، ويُصفّي قلبه من لهيب الأحقاد، ويحفظ لنفسه سكينة لا تهزّها الأخطاء العابرة ولا المواقف الصغيرة.