مرافئ الروح… حين يعود المعنى إلى نفسه
قبل عامٍ كامل، كنتُ أجلس أُنسّق لطباعة روايتي، غارقة في دوامة من الحيرة والقلق… أتساءل إن كانت الكلمة ستصل، وإن كان هذا الصوت الداخلي يستحق أن يُروى، وإن كانت الروح ستجد قارئًا يسمعها حين تهمس.
ذلك المشهد القديم —يدي المرتعشتان فوق الورق، ارتباكي بين بروفةٍ وأخرى، وتساؤلي المستمر:
هل هذا الطريق وُجد لأمشيه أم لأتراجع عنه؟
عاد إليّ كلّه ليلة الأمسية… عاد حين جلستُ بين الحضور، أفسّر وأحتفل وأعيد تأويل الرواية التي وُلِدت من القلب قبل الحرف.
في تلك اللحظة شعرت بالنعمة تتجلى، ليس فقط لأن والديّ وأحبّائي كانوا حولي يحتفلون بما اختزنته الأيام داخلي، بل لأن الحضور الذي فاق كل توقعاتنا ملأ المكان كما لو أنهم جاءوا ليكونوا جزءًا من الحكاية… لا جمهورًا يسمعها فقط.
ولولا خوفي أن أنسى أحدًا لذكرتهم اسمًا اسمًا، فكل وجهٍ منهم كان له أثره، وكل روحٍ تركت بصمتها الهادئة على هذا المساء الذي لا يُنسى. ذلك الامتداد الإنساني، الذي جاء من القلب إلى القلب، هو ما منح الأمسية صداها… وتوهّجها… وذلك الضوء الذي يظل معلّقًا حتى بعد أن تُطفأ الأضواء.
الأمسية لاقت صدى كبيرًا لم أتخيله، وجاء هذا الصدى من أرواح آمنت بالفكرة قبل أن تؤمن بالتفاصيل، ومن قلوب خصّصت وقتها لتكون حاضرة—حاضرة فعلًا، لا مرورًا عابرًا على مقعد.
وكان خلف هذا النجاح فريق التنظيم بقيادة أحمد البراهيم، بجهودهم الجبّارة التي تستحق أن تُذكر في كل حديث.
ولولا ذلك الإتقان الذي بذله الفريق المنظم في كل صغيرة وكبيرة، لما اكتملت صورة الأمسية بهذا النضج والجمال.
عملوا بصمت، وأعطوا بلا توقّع، وأثبتوا أن النجاح الحقيقي لا يولد من مقدّم المايكروفون، بل من تلك الأيادي التي ترتّب المشهد وتُهيّئه ليظهر للعالم.
كما لا يمكن أن يكتمل الامتنان دون الإشارة إلى الشركاء الذين دعّموا هذا اللقاء، وفي مُقدّمتهم مجلة السياحة العربية
التي كانت الراعي الرسمي للأمسية، فوجودهم الداعم أضفى على اللقاء بعدًا أوسع، وجعل من الأمسية حدثًا يحتضن الأدب
تحت مظلّة ثقافية تؤمن بجمال الكلمة وثراء المكان.
ولا ننسى نادي حكاية الإبداعي الذي شارك في التنظيم، وكل يد امتدّت لتجعل لهذا المساء صورته المكتملة.
ولكلِّ مركبٍ رُبّان، ولو لم يعرف الربّانُ كيفية مواكبة أمواج البحر لفاضت المركبة… أو ضاعت وسط الريح.
وأمسيتنا تلك كان لها رُبّانة تعرف الطريق: أزهار البقشي، التي قادت الحوار برصانة، وفتحت للنص نوافذ لم يكن ليصلها وحده، وجعلت من التأويل سفينة تعبر بين الحرف والروح بسلامٍ واتزان.
أما المكان—مساحة تغريد البقشي— فلم يكن فقط موقعًا للأمسية، بل كان لوحةً تتنفّس، جدرانها محمّلة بلمساتٍ فنية داعبت الحروف والتأويل، وجعلت من اللقاء حالة جمالية تتماهى مع روح النص نفسه.
كان المكان شريكًا في السرد، ليس إطارًا… بل ضوءًا. ليس مقعدًا… بل مساحة عبور.
تلك الليلة كانت أكثر من أمسية… كانت استعادة لصوتٍ خفته الأيام ثم عاد ليُسمع من جديد. كانت تصالحًا مع الطريق،
وتأكيدًا أن الكلمة حين تجد صدًى في قلوب الآخرين تكتسب حياة لا تمنحها لها الكتابة وحدها.
لقد أكّد لقاؤنا أن الأرواح، حين تلتقي على ضفاف التأويل، تكتشف نورها الداخلي من جديد… وتتذكّر أنها لم تكن يومًا وحدها.















