حروف التّحنان
ورد عن الإمام الكاظم
: «كَانَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلاَمُ إِذَا دَعَتْ تَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنَاتِ وَ لاَ تَدْعُو لِنَفْسِهَا.
فَقِيلَ لَهَا يَا بِنْتَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إِنَّكِ تَدْعِينَ لِلنَّاسِ وَ لاَ تَدْعِينَ لِنَفْسِكِ. فَقَالَتِ: اَلْجَارَ ثُمَّ اَلدَّارَ» [بحار الأنوار ج 43 ص 81 ].
مشهدية تخطها الحروف الصادقة والعميقة للإمام
في وصف مولاتنا الزهراء
بين يدي الخالق عز وجل في محراب الطاعة والعبادة الحقيقية، مناجاة ملؤها التذلل والخشوع والكمال تسبّح رب العالمين وتقدّسه وتُثني على نعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، وقد انسابت من بين ثنايا روحها الخلاقة مشهدية نكران الذات والوهج الوجداني الملامس لحاجات وآلام الآخرين، فلا تطلب لنفسها شيئا من الرزق والصحة والأمن بل تفيض كلماتها بالتحنان والود لكل البيئة المجتمعية المحيطة بها، وكأن قلبها الرؤوف قد اتّسع لحاجات الناس بأسرهم بدون استثناء، فإذا وقفت في محرابها ورفعت يديها حملت هموم الناس وبسطتها بين يدي الرحمة الإلهية، فأي صورة تحملها هذه المشهدية لأولي الألباب إذ ترسم لهم معالم النكرات للذات والسلامة من الأنانية والتكبر، فمن ينسون عالم الآخرة ويتلهّون بزين الدنيا والافتتان بزخارفها هم - حقا - من ينسلخون من الإنسانية الجميلة المشبعة بمشاعر الاحترام والود، تتصحّر قلوبهم من الإحساس بالآخر والمشاركة الوجدانية مع متاعبه وهمومه ومشاكله.
سُئلت مولاتنا الزهراء
يوما بدهشة لا تخلو من إعجاب: يا بنتَ رسولِ الله، إنّكِ تدعين للناس ولا تدعين لنفسك!
فقالت
في بساطة تُخفي خلفها عمقا لا يُدركه إلا العارفون: الجار ثم الدار».
إنها كلمة مختصرة ولكنها تحمل فلسفة الوجود وحقيقته والدور الوظيفي المناط بالإنسان والمتلائم مع كينونته وكرامته، وتُعيد ترتيبَ أولويّات القلب الإنساني وجدولة حساباته وفق معطيات العطاء وبناء الشخصية المفعمة بالذكاء الوجداني، في هذه العبارة تختصر الزهراء
منهج الحياة كما يريده الله تعالى في بناء الإنسان أخلاقيا، أن يبدأ الإنسان من الآخر ويتحسّس آلامه ليصل إلى ذاته وصيانتها من التبلد الوجداني، إنها معادلة الرحمة وقانون الارتقاء الروحي وقواعد ضبط النفس والمشاعر والانفعالات، أن تنسى نفسك قليلا لتجدها أكثر صفاء وقد أضاءت الطريق لمن يبحث عن طوق النجاة والمساعدة، أن تُطفئ نار أنانيتك لتشعل شمعة الخير في دروب الآخرين فتكون مشيرا وموجّها للغير في درب العطاء.
مولاتنا الزهراء
تبين لنا أن الأدعية والمناجاة لها مضامين تنعكس على شخصية الإنسان فكريا وأخلاقيا واجتماعيا، حيث يتفتح على الحياة وملؤه التفاعل المعطاء ومد جسور الاحترام والتعاون والتكاتف، فالتوحيد - بنظر مولاتنا لا يُعبّر عن حالة جمود وانعزال بل هي حركة جوهرية فاعلة على المستوى الفردي والمجتمعي، وتتجلّى بأبهى صورها في التفاعل الوجداني مع حاجات وهموم الآخرين من حولنا، كما أنها تستبطن دعوة لبناء النفس بعيدا عن أغلال الأنانية والتقوقع حول الذات ومتطلباتها، فحين تدعو الزهراء
للمؤمنين والمؤمنات فهي لا تُنفق كلمات، بل تُوزّع نورا تُرسل موجات من طاقةِ الحبّ الإلهي تغمرُ الوجود وتطهّر النفوس من ضيق الذات.













