واشنطن: حين يتحول الاستقطاب إلى شلل
من جديد، تجد الولايات المتحدة نفسها رهينة أزمات الديمقراطية التي صنعتها بنفسها. فالإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ البلاد، الذي بدأ في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2025، لا يمثل مجرد فشل تقني في تمرير الموازنة؛ بل هو، في جوهره، عرض صريح لأزمة هيكلية عميقة يعيشها النظام السياسي الأميركي. ما نشهده هو سقوط الحوار البنّاء في هوة (الاستقطاب الحاد)، وتحول المؤسسات الديمقراطية من أدوات لإدارة الدولة إلى ساحات ل(صراع صفري).
إن تجاوز الرقم القياسي السابق (35 يوماً) ليس مجرد إحصائية، بل هو مؤشر على (هشاشة مؤسسية) متنامية. فعندما يصبح الفشل في تمويل الحكومة الفيدرالية هو السلاح المفضل في المفاوضات السياسية، فهذا يعني أن النخب السياسية، الجمهورية والديمقراطية، باتت مستعدة للتضحية بالاستقرار العام مقابل مكاسب حزبية ضيقة. إن حال الحزبين المتنافسين اليوم كحال زوجين منفصلين ينتقمان من بعضهما في الأطفال (وهم هنا عامة الشعب).
تُظهر لغة الأرقام فداحة هذا العبث السياسي: أكثر من 750 ألف موظف فيدرالي إما أُجبروا على العمل من دون أجر أو حُرموا فرصة تحصيل قوت يومهم، وخسائر اقتصادية مباشرة تقدر بمليارات الدولارات. من منظور سوسيولوجي، ما يحدث في واشنطن هو (تعطيل متعمد) للعقد الاجتماعي. المواطن الأميركي العادي يجد نفسه رهينة في صراع لا علاقة له به، مما يغذي شعوراً عاماً بفقدان الثقة. هذا بالضبط ما وصفه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ب(أزمة الشرعية) (Legitimation Crisis)، حين تعجز الحكومة المنتخبة ديمقراطياً عن الوفاء بمستلزمات شرعيتها، المتمثلة في سن وتنفيذ السياسات التي تخدم الشعب الذي انتخبها.
يكمن لب الأزمة الحالية في الخلاف حول تمديد إعانات برنامج (أوباما كير). لم يعد هذا البرنامج مجرد قانون للرعاية الصحية، بل تحول إلى (رمز) للصراع الآيديولوجي في أميركا. إصرار الجمهوريين على رفض تمويله، وتمسك الديمقراطيين به، يكشفان عن عجز الطرفين عن إيجاد (أرضية مشتركة) للحكم، حيث أصبح الولاء الحزبي يفوق أي اعتبار وطني أو مسؤولية حكومية. وأقر مجلس الشيوخ يوم الاثنين مشروع قانون للانفاق يسمح بإنهاء الإغلاق الحكومي. لكن المشروع بحاجة الآن لإقراره في مجلس النواب، حيث يملك الجمهوريون غالبية تسمح لهم بتمريره بدون دعم من الديمقراطيين. ويُتوقع التصويت عليه هذا الأسبوع.
في أي حال، مع اقتراب الإغلاق من يومه الأربعين، يتجاوز التهديد السمعة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة. السؤال الذي يطرحه هذا المشهد يتجاوز واشنطن، ليصبح سؤالاً عالمياً حول قدرة الديمقراطيات الغربية على العمل بفاعلية في عصر الانقسامات. إن هذا الإغلاق ليس أزمة مالية، بل هو أزمة حكم حقيقية، تعكس بمرارة كيف يمكن للاستقطاب أن يحول أعرق المؤسسات الديمقراطية إلى أدوات للشلل الذاتي.













