آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

حين يتذكّر العقل ما لم يحدث بعد

سهام طاهر البوشاجع *

تمرّ علينا في حياتنا أناسي كثيرة، نلتقيهم صدفة أو معرفة، فنقضي معهم لحظات قصيرة من التعارف، لا تتجاوز في الغالب تبادل الأسماء والعائلة وأحيانًا المنصب أو الوظيفة.

وإن طالت تلك اللحظات قليلًا، تمتدّ المعرفة إلى سبر أغوار النسب والأقارب، فنبدأ بالسؤال: ”من خوالك؟ تعرف فلان؟ يقرب لك فلان؟“ وهكذا تتكوّن العلاقات الاجتماعية التي قد تستمر أو تتوقف عند حدّها الأول.

الغريب في الأمر أنك أحيانًا تصافح شخصًا لأول مرة، لكنك تشعر في أعماقك أنك تعرفه!

بل وتوقن في تلك اللحظة أنك قد مررت بهذا المشهد من قبل — نفس السلام، نفس المكان، نفس النظرة — فتقلب ذاكرتك باحثًا: أين رأيت هذا الشخص؟ ومتى؟

بل الأعجب من ذلك أنك قد تمرّ بمكان، أو موقف، أو حديث، فيغمرُك إحساس غريب بالألفة، وكأنك تعيش تكرارًا لحدثٍ سابقٍ تمامًا، رغم أنك تدرك أنه يحدث الآن للمرة الأولى!

لقد شدّ هذا الشعور الغامض انتباه العلماء والأطباء، وحاولوا تفسيره علميًا، فوجدوا أنه يُعرف باسم ظاهرة ”ديجا فو“، وهي كلمة فرنسية تعني ”شُوهِدَ من قبل“.

وهي ببساطة ذلك الإحساس الزائف بأنك عشت الموقف الحالي مسبقًا، رغم يقينك الواعي بأنه جديد تمامًا.

يصفها علماء الأعصاب بأنها خلل مؤقت في معالجة الذاكرة، وليس رؤية مستقبل أو حدثًا غيبيًا كما يتوهم البعض

ولذا أحيانًا تُخزَّن التجربة الجديدة مباشرة في الذاكرة طويلة المدى بدلًا من القصيرة، فيظن الدماغ أنها ”قديمة“.

وقد أشارت دراسة نُشرت في مجلة Neuropsychologia - جامعة ستانفورد «2018» إلى أن مناطق الذاكرة في الفصّ الصدغي مسؤولة عن هذا الخلط اللحظي.

مما يؤدي إلى عدم تزامن الإشارات بين نصفي الدماغ حيث تصل المعلومات الحسية إلى نصفي الدماغ بفارق زمني بسيط جدًا «جزء من الثانية»، فيشعر أحد النصفين وكأنه ”تذكر“ المشهد قبل أن يعالجه الآخر.

وقد أظهرت أبحاث في جامعة كولورادو أن هذا التأخير في الفص الصدغي يمكن أن يولّد الإحساس بالديجا فو.

وقد يكون الإرهاق والقلق وقلة النوم ولمن يعانون من التوتر أو التعب الذهني، سبب في حدوث هذا الخلل لأن الدماغ في هذه الحالة يعالج المعلومات بصورة غير دقيقة.

ولا أعلم هل هي ظاهرة طبيعية وشائعة عند الكثيرين أم عند قلة من الناس، وحين بحثت عن مدى شياع هذه الظاهرة وجدت أنه يمرّ بها أكثر من 70% من الناس مرة واحدة على الأقل في حياتهم.

لكنها قد تحتاج إلى مراجعة طبية إذا تكرّرت كثيرًا أو صاحبتها نوبات فقدان وعي أو تشنجات، إذ قد ترتبط في حالات نادرة بـ صرع الفصّ الصدغي

ورغم شيوع هذه الفكرة في الأدب والثقافة، لا يوجد دليل علمي يربط ظاهرة الديجا فو بالأحلام السابقة أو بعوالم غيبية.

فهي ببساطة خلل لحظي طبيعي في معالجة الذاكرة، يجعلنا نعيش للحظة وهمَ ”التكرار“ في عالم لا يكرّر شيئًا أبدًا

وفي كل مرة نعيش فيها لحظة نشعر بأنها متكررة أو نقابل أشخاص وكأننا نعرفهم منذ مدة نشعر في تلك الأوقات بأن عجلة الزمن توقفت قليلا ًولو للحظات أو عادت إلى الوراء، ومع كل ذلك نحن ممتنون للخالق عز وجل أن حمانا بحافظة وذاكرة وعقل مدرك ومميز بين الواقع والخيال أو حتى حين تختلط عليه الأمور ولو للحظات.

كاتبة ومحررة في صحيفة المنيزلة نيوز