آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

هل نريد أن نكون ورثة.. أم شركاء في الحضارة؟

أمير بوخمسين

لماذا كانت بغداد وقرطبة ودمشق منارات للعقل والخيال، ثم صرنا نعيش على فتات ما يبدعه غيرنا؟

السؤال الأول، في جوهره، ليس عن الماضي بقدر ما هو عن قدرتنا على الإبداع في الحاضر. فهل عجزت الأمة العربية عن إنتاج ثقافةٍ جديدة، تحمل روحها الخاصة وتواكب العصر؟ أم أننا اكتفينا بترديد مقولات الأوائل دون أن نضيف سطرًا جديدًا. فالثقافة بطبيعة الحال ليست تراكما معرفيًا فحسب، بل قوة إنتاجية تولد من رحم وعينا بالذات. حين كانت الأمة تعرف نفسها وتعتز بها وتثق بعقلها، أنتجت فلسفة ابن رشد، وطب ابن سينا، وفقه الشافعي، وشعر المتنبي الذي ما زال يدوي بعد أكثر من ألف عام.

لكننا اليوم، في كثير من الأحيان، لا ننتج الثقافة بل نستهلكها. نترجم الكتب ولا نكتبها، نعيد صياغة أفكار الغرب بلغتنا ونظن أننا أبدعنا.

انحسر السؤال، وتراجع النقد، وغابت الجرأة الفكرية، حتى صرنا نقدس القديم أكثر مما ننتجه من جديد. من بعض الأسباب التي قد تفسر هذا التغير: التغيرات الاقتصادية والسياسات غير الفعالة التي أثرت في مكانة الدول أو الشركات، وعدم مواكبة التطورات التكنولوجية التي أدت إلى تراجع القدرة التنافسية. كما أن السياسات الحكومية غير المدروسة أو الفساد أثّرا سلبًا في النمو والتقدم، إضافة إلى التغيرات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى تغير في الأولويات والاهتمامات. التنافس الدولي مع ظهور منافسين جدد وتحسن أداء الدول الأخرى أثّر سلبًا في مكانة معينة، إضافة إلى الأزمات البيئية والتغيرات المناخية والكوارث الطبيعية التي يمكن أن تؤثر في الاقتصاد والمجتمع. لذلك، من المهم دراسة هذه العوامل بشكل شامل لفهم سبب التغير في المكانة.

الحضارة الخلاقة لا تولد في بيئة الخوف، ولا تنمو تحت ظل الوصاية. ففي العصور الذهبية كانت حرية التفكير مفتاح النهضة، وقد سُمح في الماضي بترجمة كتب اليونان، لا لتقليدها بل لمحاورتها، وفُتح بيت الحكمة للعلماء من مختلف الأديان والمذاهب. تلك الروح المنفتحة هي التي أنجبت حضارة إنسانية تجاوزت حدود اللغة والعرق. أما اليوم، فقد ضاقت المساحة بين المبدع والرقابة، بين السؤال والاتهام. تحولت مؤسساتنا الثقافية إلى منابر للتكرار لا للاكتشاف، وصار المفكر الحقيقي يعامل كمتمرد على المألوف لا كمستنير. فكيف يمكن لأمة أن تنتج حضارة خلاقة وهي تخاف من السؤال أكثر مما تخاف من الجهل؟

ومع ذلك، لا يمكن القول إن الأمة ماتت إبداعيًا. فبين هذا الواقع غير المرضي، تظهر محاولات مضيئة. في الفكر والثقافة، قدّم محمد عابد الجابري نموذجًا لعقل عربي قادر على محاورة الحداثة دون أن يتنكر لجذوره، وترك مالك بن نبي مشروعًا حضاريًا متكاملاً، يحلل أسباب القابلية للاستعمار ويقترح طريقًا للنهوض، واستطاع الطيب صالح ومحمود درويش أن يعيدا للعربية نكهة الجمال والكرامة.

أما ما العوامل التي يمكن أن تخفف من تأثير هذه العوامل السلبية التي تؤدي إلى تراجع مكانة الدول؟ يمكن اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاستراتيجية:

1. التخطيط الاقتصادي السليم، وتعزيز السياسات الاقتصادية المستدامة، والاستثمار في البنية التحتية لدعم النمو.

2. الابتكار والتكنولوجيا، وتشجيع البحث والتطوير، والاستثمار في التكنولوجيا الحديثة لمواكبة التطورات العالمية.

3. تحسين الشفافية ومكافحة الفساد، وتعزيز المؤسسات الحكومية لضمان إدارة فعالة.

4. التعليم والتدريب، وتعزيز التعليم والتدريب المهني لزيادة كفاءة القوى العاملة والتكيف مع التغيرات في سوق العمل.

5. التعاون الدولي، عبر إقامة شراكات مع دول أخرى لتعزيز التجارة والاستثمار وتبادل المعرفة.

6. التكيف مع التغيرات الاجتماعية، وتعزيز القيم الاجتماعية والثقافية الإيجابية مثل التسامح والمساواة لضمان الاستقرار الاجتماعي.

7. استدامة البيئة، عبر تنفيذ سياسات بيئية مستدامة وتقليل انبعاثات الكربون لحماية البيئة والتكيف مع التغيرات المناخية.

8. التنوع الاقتصادي، وتشجيع تنوع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على قطاع واحد لتقليل المخاطر.

باستخدام هذه العوامل، يمكن تعزيز القدرة على مواجهة التحديات والتكيف مع التغيرات السريعة في العالم.

هذه العوامل والنماذج تبين أن العجز ليس في الجينات العربية، بل في البنية التي تخنق المبدع وتمنع المبادرة. ليست المشكلة أن العرب لا يعرفون، بل أنهم لا يربطون المعرفة بالفعل. فالثقافة الخلاقة هي التي تترجم الوعي إلى مشروع، والفكرة إلى مؤسسة، والعاطفة إلى إنجاز. حين نحرر التعليم من الحفظ، والإعلام من التلقين، والدين من التعصب، سيتنفس الإبداع العربي من جديد.

الثقافة هي الدرع الوحيدة التي تحمي الأمة من التلاشي. وما لم ندرك أن الخلق الثقافي هو مقدمة النهوض الحضاري، سنظل نعيش على أمجاد ماضٍ لا يبني مستقبلًا.

لم تعجز الأمة العربية عن إنتاج ثقافة مبدعة، لكنها ترددت في مواجهة ذاتها. ولم تتقاعس عن صناعة حضارة خلاقة، لكنها استبدلت الابتكار بالتكرار. والسؤال اليوم: هل نريد أن نكون ورثة أم شركاء في الحضارة؟

فالميراث يُستهلك، أما الشراكة فتُبدع. وبين هذين الخيارين، يكتب مصير أمة.