آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

السعودية بين الطموح والاستدامة: قراءة في التحول الاقتصادي لرؤية 2030

عاطف بن علي الأسود *

من خلال متابعتي المستمرة للتطورات الاقتصادية في المملكة العربية السعودية وقراءتي لما يصدر عن المؤسسات الدولية مثل وكالة بلومبرغ وتقارير صندوق الاستثمارات العامة ووزارة الاقتصاد والتخطيط، أستطيع القول إن المملكة تمر بمرحلة فارقة في مسيرة رؤيتها الاقتصادية، مرحلة تعيد فيها صياغة مفاهيم النمو والتوسع والاستثمار وفق منظور أكثر اتزانًا وعمقًا. فمنذ انطلاق رؤية 2030، تبنت السعودية نهجًا جريئًا في بناء اقتصاد متنوع وقوي، واستثمرت في مشاريع كبرى مثل نيوم والبحر الأحمر والقدية وغيرها، لتؤسس لمرحلة غير مسبوقة من التحول الوطني. لكن ما نراه اليوم ليس استمرارًا بنفس الوتيرة، بل انتقالًا محسوبًا نحو إدارة أكثر نضجًا وواقعية، حيث أصبح التركيز على الكفاءة والاستدامة بدلاً من التوسع الكمي وحده.

السياسات الاقتصادية السعودية في السنوات الأخيرة تعكس بوضوح وعيًا متقدمًا لدى صانع القرار بضرورة الموازنة بين النمو السريع والانضباط المالي. فبعد موجة من الإنفاق الاستثماري الضخم لتحفيز القطاعات الجديدة، بدأت مرحلة المراجعة والتقييم وإعادة ترتيب الأولويات بما يضمن أن كل مشروع يخدم هدفًا واضحًا ضمن الرؤية، ويحقق عائدًا مستدامًا على المدى الطويل. هذا التحول لا يمكن وصفه بالانكماش، بل هو تطور طبيعي لأي اقتصاد طموح بلغ مرحلة النضج المؤسسي، حيث تتسع الرؤية من مجرد تحقيق أرقام إلى بناء منظومة متكاملة تحافظ على الاستقرار وتضمن استمرار الزخم التنموي.

من خلال تتبع حركة الاستثمارات العامة والخاصة، يظهر أن المملكة استطاعت بناء قاعدة صلبة لاقتصاد متنوع. فصندوق الاستثمارات العامة، الذي تجاوزت أصوله 900 مليار دولار، بات لاعبًا رئيسيًا في دعم مشاريع محلية كبرى واستثمارات عالمية استراتيجية، ما جعل الاقتصاد السعودي أكثر ارتباطًا بالأسواق الدولية وأقدر على مواجهة التقلبات. وفي المقابل، تشهد القطاعات غير النفطية نموًا متصاعدًا بفضل سياسات الدعم والإصلاح وتطوير بيئة الأعمال، وهو ما أكدت عليه التقارير الاقتصادية الدولية التي أشادت بقدرة المملكة على تحقيق توازن بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على استقرارها المالي.

قراءة المشهد الاقتصادي اليوم تكشف عن وعي متجدد بضرورة بناء اقتصاد قادر على التكيف مع التحديات العالمية. فمع تزايد التقلبات في أسعار الطاقة وتغير اتجاهات الأسواق، يبدو أن السعودية اختارت طريق الاستدامة والتنوع باعتباره الخيار الاستراتيجي الأمثل. السياسات المالية الأخيرة التي تهدف إلى ضبط الإنفاق دون الإضرار بمعدلات النمو تعكس إدراكًا بأن التنمية لا تُقاس بحجم الإنفاق بل بنوعية الاستثمار وجدواه. وهذا ما يمنح الرؤية السعودية وزنًا حقيقيًا في معادلة الاقتصاد العالمي، إذ لم تعد الرؤية مجرد خطة محلية، بل أصبحت نموذجًا في إدارة التحولات الكبرى وفق منطق اقتصادي متزن.

المتابع بدقة يدرك أن هذه المرحلة ليست توقفًا عن الطموح بل إعادة ضبط لإيقاعه، فالطموح السعودي لم يتراجع، بل أصبح أكثر واقعية وارتباطًا بالحقائق الاقتصادية. إن ما يجري الآن هو تأسيس لمرحلة جديدة من النضج المؤسسي، حيث تدار المشاريع الكبرى برؤية استثمارية مستدامة، ويُعاد تشكيل منظومة الدعم الحكومي لتكون أكثر استهدافًا وكفاءة. هذه التحولات تضع المملكة على مسار استراتيجي واضح يجعلها أكثر قدرة على المنافسة وجذب الاستثمارات العالمية، ويمنحها موقعًا متقدمًا ضمن الاقتصادات الصاعدة التي تقود التحول في المنطقة.

من وجهة نظري، ووفقًا لما أتابعه من تحليلات وتقارير، فإن هذا التحول في النهج الاقتصادي السعودي هو جزء من عملية تطور طبيعية لاقتصاد يخطط للمستقبل بعقلية مؤسسية. السعودية اليوم لا تسابق الزمن من أجل بناء مشروعات فحسب، بل تبني نموذجًا اقتصاديًا جديدًا قوامه الانضباط المالي، التنوع الإنتاجي، والاستثمار في الكفاءات البشرية. هذه هي المرحلة التي تميز الأمم القادرة على الانتقال من الطموح إلى الاستدامة، ومن الحلم إلى الواقع القابل للقياس.

إن رؤية 2030 تدخل اليوم طورها الثاني بثقة نابعة من التجربة والتعلم، وهي مرحلة التوازن الاستراتيجي التي ستحدد ملامح الاقتصاد السعودي لعقود قادمة. فالتحديات لا تزال قائمة، لكن ما يميز التجربة السعودية هو المرونة في التعامل مع المتغيرات، والقدرة على تحويل كل تحدٍ إلى فرصة. ومن خلال هذه القراءة المتأنية، يمكن القول إن المملكة تسير نحو مستقبل اقتصادي أكثر نضجًا وواقعية، حيث تتكامل السياسات والقرارات في بناء اقتصاد متنوع ومستدام يحقق تطلعات الأجيال القادمة ويحافظ على مكانة السعودية كقوة اقتصادية إقليمية وعالمية صاعدة.

المصادر:

• تقارير وكالة بلومبرغ الاقتصادية حول السياسات السعودية «2025».

• وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية - تقارير الأداء المالي والاقتصادي.

• صندوق الاستثمارات العامة السعودي - البيانات السنوية للقطاعات الاستثمارية.

• هيئة السوق المالية - تقارير تطوير بيئة الاستثمار في المملكة.
دراسات عليا اقتصاد صحي