آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

هل تستطيع دور الحضانة أن تُعوض التعليم الأسري؟

منتظر الشيخ

العلم من الصغر كالنقش في الحجر، اختلف أهل الرواية في نسب هذا القول، فقسم نسبه إلى النبي محمد ﷺ، وضعّفه آخرون، ورأى بعضهم عدم جواز نسبته إليه، بينما أورده العلامة المجلسي في بحار الأنوار منسوبًا إلى الإمام علي بن أبي طالب ، في حين ينسبه آخرون إلى الحسن البصري. ومهما يكن القائل، فإن القول بلا ريب صادق المعنى، بليغ الدلالة، إذ يختصر جوهر التربية والتعليم، ويؤكد أن التعلّم في الصغر هو الأساس الذي تُبنى عليه شخصية الإنسان وفكره، وهو الركيزة التي ينطلق منها في فهم الحياة وبناء مستقبله.

وأدّعي أن التعليم لا يبدأ من لحظة دخول الطفل المدرسة، بل من اللحظة الأولى التي تحتضنه فيها أمّه، حين تغني له لينام، أو تلقّنه أول حرف ينطقه، أو تفرح بأول خطوة يخطوها، أو تعلمه كيف يطعم نفسه، أو كيف يعتذر عند الخطأ. تلك الدروس البسيطة، العفوية، التي لا تُكتب في منهج، ولا تحتاج إلى قلم وسبورة، تشكّل ما يمكن تسميته بـ ”التعليم الأسري“.

إنها مهمة طويلة، شاقة، وعميقة الأثر، لأن كل مرحلة من مراحل نمو الطفل تتأثر بما قبلها وتؤثر فيما بعدها، فتكوّن شخصيته وتبني عالمه الداخلي. فمثلاً، اكتساب اللغة في مرحلة مبكرة يفتح أمامه أبواب الفهم والتواصل، ويسهّل عليه التعامل مع ذاته ومع الآخرين.

تؤدي الأسرة دورًا محوريًا في بناء ثقافة الطفل وتشكيل شخصيته الاجتماعية، فهي مرآة تعكس قيمها وأخلاقها داخل كل بيت. فالأسرة التي تُعلي من قيمة العلم وتشجع أبناءها على القراءة والمناقشة اليومية، تُنبت فيهم حبّ المعرفة والدافعية للتعلّم، وتجعل من طلب العلم عادة أصيلة لا واجبًا ثقيلًا. وعلى النقيض، فإن الإهمال في هذه المرحلة الحساسة يترك أثرًا تراكميًا يمتد طيلة حياة الإنسان، ويصعب محوه لاحقًا.

دور الحضانة... بين الحاجة والرعاية

لا شك أن تحولات الحياة المعاصرة ودخول الأمهات بقوة إلى سوق العمل فرضت واقعًا جديدًا على الأسرة، واقعًا لا يمكن تجاهله. ولست هنا في معرض نقد هذا الانخراط، ولا في لوم الأنظمة التي لم تراعِ بما يكفي الوظيفة الأمومية العظيمة بوصفها ركيزة البناء الأسري.

لكن مع هذا التغير، برزت دور الحضانة الأهلية كخيارٍ ضروريّ للأمهات العاملات، ومع الأسف فإن كثيرًا منها يفتقر إلى أبسط مقومات التربية والرعاية، وتعتمد في الغالب على اجتهادات شخصية ورؤى تجارية أكثر منها تربوية.

لقد بذلت بعض الجهات الرسمية جهودًا مشكورة في دعم تمكين المرأة العاملة، مثل برنامج قُرّة الذي يقدمه صندوق تنمية الموارد البشرية، وهو مبادرة تستحق التقدير. غير أن هذا الدعم، رغم سخائه، لم ينعكس بما يكفي على تطوير بيئة الحضانة ذاتها، إذ ما زالت تفتقر في كثير من الأحيان إلى الكوادر المؤهلة، والمناهج المدروسة، والرؤية التربوية الواضحة.

إن تمكين المرأة في سوق العمل هدف نبيل، لكنه لا ينبغي أن يكون بمعزل عن تمكين الأسرة ذاتها. فالتوازن بين متطلبات العمل ومسؤولية التربية هو التحدي الحقيقي. فالدعم المادي للحضانات لا يعوّض الفراغ العاطفي والتربوي الذي يخلّفه غياب الأم لساعات طويلة عن أبنائها، ولا يملأ الحيز الذي يشغله حضورها في تفاصيل يومهم الصغيرة، تلك التفاصيل التي تشكّل وجدان الطفل وتغرس فيه القيم الأولى التي تبقى معه ما بقي حيًّا.