آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:21 ص

النقد طريق لبناء الأفكار

عيسى العيد * صحيفة اليوم

إن طرح الأفكار وجعلها في متناول الناس يستفز أفكارًا أخرى، إمّا معها وإمّا مخالفة لها، وفي كلا الحالتين الأمر مفيد للناس. فليس هناك صاحب فكرة يعتقد أنّ فكرته صواب مائة في المائة، إنما هي قابلة للنقد وقابلة للإنضاج بأفكار مشابهة لها.

قرع الأفكار بالأفكار الأخرى شبيه بقرع الطبول التي تعطي أصواتًا مرتفعة عندما تُقرع، كذلك الأفكار عندما تُقرع بعضها ببعض تأتي بمثابة الصوت الفكري لأفكار ناضجة. وحتى تتكوّن فكرة ناضجة لا بدّ من نقد الأفكار لا الأشخاص.

النقد في كل المجالات أمر نافع، لأنه يُصلح ما غاب عن أي شخص طرح فكرة علمية أو ثقافية أو غير ذلك. لكن للنقد أساليب متنوعة تأتي بناءً على ما يحمله الناقد تجاه الفكرة المطروحة؛ فتارة يكون قصد الناقد التسقيط، وهنا يدخل في شخصنة الفكرة، بحيث يتحوّل نقده إلى تسقيط صاحب الفكرة وليس الفكرة بعينها. لأن نقد الفكرة لا بد أن يكون بالنظر إليها من جميع جوانبها وتحليلها بشكل جيد بعيدًا عن صاحبها، وهذا النوع من النقد يُطلق عليه في الأعم الأغلب «النقد الهدّام».

ومع الأسف، هناك من يظن أن هذا النوع من النقد هو جرأة في إبداء الرأي، فإذا عُوتب عليه، قابل ذلك باتهام الآخرين بأنهم لا يقبلون الاختلاف أو يخشون النقد، مع أن النقد الحقيقي يختلف تمامًا عن التجريح والتسقيط.

إلا أن «النقد البنّاء» الذي يُحلّل الفكرة ويقارعها بفكرة مضادة بعيدة عن الشخص المنتقد. لذلك للنقد أسلوب معين، كضرورة الابتعاد عن تجزئة الفكرة، مثال على ذلك: يقول كذا، ونقول كذا. كذلك يجب تجنّب التجريح والاستهانة بصاحب الفكرة كالاتهام بالجهل أو السفه، إنما على الناقد أن يُعاين الفكرة ويطرح فكرته المضادة حتى دون ذكر صاحب الفكرة، وعلى الناس أن تختار ما تقتنع به.

مع الأسف، لا زال النقد في مجتمعاتنا العربية غير مفهوم، أو بمعنى آخر غير ناضج، لذلك تجد المنتقد يخيم عليه الحزن ويرى نفسه فاشلًا، مع أنه اجتهد في تكوين فكرته. نتيجة ذلك أن الناقد عندما ينتقد يعتبر نفسه داخل حلبة مصارعة، يا غالب يا مغلوب، مع أن الأمر مختلف جدًا؛ فالنقد لابد أن يكون مفيدًا ومريحًا لكلا الناقد والمنتقد، هكذا تُبنى الأفكار وتنشط متجاوزة كل المعوقات.

إنما بُنيت الحضارات، وتربّع العلم على أركانه الراسخة، وأُقيمت دور العلم والجامعات؛ ولم يأتِ ذلك إلا نتيجة النقد المحترم البعيد عن الشخصنة والتسقيط. لذلك، لا بدّ من التدريب المهني والذاتي على ممارسة النقد السليم، حتى تتكوّن لدينا آراء متعددة، متباينة أحيانًا، لكنها ناضجة في عمقها وفهمها.