آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 9:11 ص

قراءة في ديوان مرايا الفرات العمياء

عبد الله حسين اليوسف

قراءة في ديوان مرايا الفرات العمياء - شعرية العطش الأبدي - للمؤلف/ إبراهيم محمد بو شفيع

الطبعة الأولى: 1447 هـ / 2025 م

1- قصيدة «غربة أخرى»

حينما خطتْ رِجلايَ عتبةَ المأتم بعد غيابٍ ومنعٍ واكتمالِ عددٍ، انتشت روحي برائحة العشق الحسيني، ونبتتْ في عيوني جنّةٌ اسمُها كربلاءُ.

لصعوبة الوصول إلى كربلاء، يُعوِّض المرء نفسه بالسعي إلى حضور المآتم، سواء كانت قريبةً أم بعيدةً، ويتحمّل ما يرافق ذلك من ظروفٍ كالبحث عن موقفٍ للسيارة أو المشي لمسافةٍ ما، أو توفير كرسيٍّ إذا كان بحاجةٍ ماسّةٍ إليه، إضافةً إلى اختيار مكانٍ مناسبٍ للاستماع والتفاعل مع الخطيب، وكأنّه في حضرة الإمام الحسين .

ويتلمّس المرء واقعة كربلاء، متصوّرًا أحداثها، متابعًا الخطيب بصورٍ ذهنيةٍ حيّة، متلقّيًا الكلمة والموعظة بصدرٍ رحبٍ، ناسيًا آلامه ومشكلاته الاجتماعية والعائلية، ومعطّلًا كلَّ الحواس ليتوجّه إلى المأتم بروحٍ راضيةٍ مطمئنة، مستشعرًا رضا ومواساة السيدة الزهراء .

أدخلت مأتمك الموشح بالسواد
أم جئتُ أرض الطف مفجوع الفؤاد؟

للمأتم الموعود جئت كراهب
فان يؤمل أن يرى «أرض المعاد»

دربا قطعت إلى «الحسين».. كأنني
أمشي مع الزوار من أقصى البلاد

مولاي يقتلني الحنين لكربلا
ولصوت «وا ويلاه» في لطم الحداد

الشوق يا مولاي يخنق مهجتي
رباه لا أقوى على هذا البعاد

لا أبتغي إلاك.. أنت وسيلتي
وطريقتي.. وهواك لي كل المراد

2- قصيدة «ولكم في الحسين حياة»

حزمتُ أمتعتي وسافرتُ إلى كربلاء، وأخذتُ أفتّش فيها عن آثار المعركة، مثل قِربةِ سيّدِنا العبّاس على نهر الفرات، وفيها سهمُ الغدر، ذلك السهم الذي أراد موتَ الجميع عطشًا، وكأنّه أمرٌ دُبّر بليلٍ بهيمٍ يريد الفناء، وإخماد صوت الإمام الحسين وقوله:

«إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر…».

سافرت منك إليك فاشتبكت
فيك الجهات وذابت الطرق

ورأيتُ قُرب النهر يهتف بي
«خضر»: تعال فها هنا السبق

ونسيت عند الماء فلسفتي
وتناهَبَتْ مأساتي الفرق

وبقيت وحدي دون حنجرة
إلا بقايا صوت من صدقوا

ومعي فؤاد كُله مزق
وكقربة العباس مُخْتَرَقُ

ومعي بقايا رايةٍ نُصبت
في مهجتي.. والآن تحترق

3- قصيدة «في غيابة الحب»

مناجاةٌ من بعيدٍ بين يدي ضريح الحسين .

الوقوفُ على ضريحِ الإمامِ الحسينِ ، وتخيّلُ شكلِه وجمالِه، وهو يوسفُ الزهراءِ «عليهما السلام» في الجمال، وخالقُ رمزيّةِ الحُسنِ البشريّ. حولَهُ تشعرُ أنَّ قميصَهُ، الذي مزّقَتْه السيوفُ والرماحُ، ولُطِّخَ بدمِ الشهادةِ، ما زالَتْ تفوحُ منه رائحةُ الرّوح الزكيّة، فيأخذُ القلبَ بالخفقان، وتَدرُّ العيونُ بالدمع. ويغشاكَ إحساسٌ أنَّ ما خلفَ الضريحِ يُناجيكَ بصمتٍ وهمسٍ: لا تثريبَ عليك، سلامٌ عليك، ومقبولةٌ زيارتُك.

هذا الضريح مواجع وقلوب
ياليتنا فوق الرخام نذوب

ياليتنا ذر على أعتابه
يلهو بنا ذهب، ويعبث طيب

قد مضنا شوق لـ «يوسف» عشقنا
فمتى لـ «كنعان» الوصال نؤوب؟

ذئب المصائب لم يعد بقميصه
بدم جرى، لم تفترسه نيوب

بل جاء ينزف بالظلامة جرحه
قدم الحسين على السما مسكوب

ما عاد إخوته سوى برؤوسهم
وجسومهم باهى بهنَّ كثيب

4- قصيدة «قبضة من أثر الحسين»

إلى كلِّ مَن قبضَ قبضةً من أثرِ الحسين فأحيا بها القلوبَ بعدَ موتِها.. إلى خُدّام الحسين .

لخَدَمة الإمام الحسين من رواديد وخطباء وشعراء دورٌ كبيرٌ في إحياء المنبر الحسيني، سواء من خلال اعتلائه مباشرةً أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي ودواوين الشعر. وينتج عن ذلك أبياتٌ حسينيةٌ تصوّر وتعظّم المصاب، وتنقله إلى المستمع وكأنّه يعيش الواقعة أمام عينيه، لما فيها من صدق التعبير والتوفيق في الأداء.

وقد خُلِّدت بعض القصائد بأسلوبها وأدائها المميّز، فصارت علامةً فارقةً في الذاكرة الحسينية. رحم الله الرواديد الذين ذكرهم الشاعر في قصيدته، وكأنّه يقدّم لهم الشكر الجزيل على إخلاصهم، جعل الله ذلك في ميزان حسناتهم، وتقبّلهم الإمام الحسين في خدمته الصادقة. وشاعرُنا وديوانُه اللذان نتناولهما في هذه السياحة الأدبية، يُمثّلان جهدًا وعطاءً مباركًا. رحم الله من مضى من أولئك الخدّام، وما تزال أصواتهم وأداؤهم ترنّ في الآذان وتُحفظ في الذاكرة. نسأل الله أن يحفظ الباقين، ويبارك في كلّ من يسعى لخدمة الإمام الحسين مستقبلًا.

يا أيها الناعي بأول قبلة
هبطت على خد الحسين خُضُوعا

حيث النبيُّ يذر فوق مِهَادِهِ
ورد الرثاء ويزرع التوديعا

فهناك يستمع «ابن فايز» للأسى
يهب الحروف مشاعرًا وخُشوعا

وصدى «ابن نصار» يسير بركبه
يحدو حداءً شاحبا وجزوعا

وكأنني أرنو «عطية» جاثياً
ينعى شبابًا صُرِّعُوا ورضيعا

فسرَتْ بـ «حمزة» آهة مخنوقة
من قلب زينب فاستشاط مذيعا

باسم الطفوف تفجرت آماقنا
حزنًا، وعزما لا يطيق ركوعا

5- قصيدة «دمعة عند قبر الرسول»

في ظلمةِ ليلِ المدينة، وقبل رحيله منها، ينحني الحسين أمام قبر جدّهِ رسولِ الله ﷺ شاكياً باكياً.

وقف الإمامُ الحسينُ يُلقي النظرةَ الأخيرة على قبرِ جدّهِ الرسولِ الأعظمِ ﷺ. وهنا نتخيّل عِظَمَ المناجاةِ وألمَ الفراق، وقد كان يعلم مسبقًا أنّ خروجَه لن تكون له عودة. تنحدر دمعةٌ حارقةٌ على وجنتي الإمام، وكلَّ عامٍ حين نذكر ونتصوّر ذلك الموقف، يتجدّد فينا ألمُ الفُرقةِ لمن نحبّ، وكيف بالحال وقد تملّكه الأسى والحسرة، يُقدِّم قدمًا ويؤخّر أخرى، وينظر إلى الخلف، وكأنّ قدميه قد أثقلتهما لوعةُ الوداع.

هل يستطيع أن يحمل جسده خارج منطقة المحبّة؟

تختلس عيناه النظرةَ الأخيرة، كأنّما تقولان: لن أُغمضَ عينيَّ حتى لا يختفي عن ناظريَّ جمالُ وروحُ من أحبّ.

وجرت دمعة بخد حسين
سال دمع السماء حيث تسيل

فغفا عند قبر «طه» قليلا
ولقد يحمل الكثير القليل

فإذا بالنبي في موكب المجد
تجلى، يُحفُهُ جبرئيل

ضمه السبط، صاح: «جداه خذني
لا أطيق البقاء.. حزني ثقيل»

وأكف النبي تمسح دمعا
عن خدود يشتاقها التقبيل

قال: صبرا، فإن دربك مر
شائك بالبلاء صعب طويل

سوف تلقى بكربلاء المنايا
وستعلوك أسيفٌ وخُيول

وستُسبى نساء خير نبي
تَرِدُ الشَّامَ إذ تُدَقُّ الطُّبُولُ

هكذا تبلغ العُلا في جنان
حيث تشتاق أن تراك البتول

6- قصيدة «دماء الورد»

في ذكرى استشهاد القاسم بن الحسن .

تعبيرٌ جميلٌ يصوّر كيف تقدَّم الغلامُ إلى ساحةِ الوغى بثباتٍ وحزمٍ وشجاعةٍ، لا يخافُ الموتَ، ولا يرهبُ قرعَ السيوفِ، ولا طعنَ الرماحِ، ولا رميَ السهام. بل يحملُ سلاحَهُ وقلبُه ولسانُهُ يلهجانِ بحبِّ العمِّ والإمام. لا يهابُ الموتَ، وكأنّه يقولُ للقوم: أنا ابنُ المجتبى، وجدّي حيدرة، ونحن أتباعُ النبيِّ الذي نؤمنُ به ونحبّه، فكيف تجتمعون على قتلِ ذريّتِه وتصفيةِ نسله؟

ومضى الغلام إلى الحتوف ووجهه
کالبدر مبتسما على أريافه

يمشي ورعب الموت يزحف خلفه
مستهزئا يعلو على سيافه

ويصيح مرتجزا: «أنا ابن المجتبى
إن تنكروني..» فانحنوا لهتافه

ومضى يذيق القوم أكواب الردى
فتمايلوا سكرى لشرب سُلافه

كم لقن الفرسان درس صموده
ذاك الذي أوتيه من أسلافه

7- قصيدة «سفير الكرامة»

إلى الشهيد العظيم مسلم بن عقيل .

بعثَ الإمامُ الحسينُ ابنَ عمِّه مسلمَ بنَ عقيلٍ إلى الكوفة، فقامَ بدورٍ عظيمٍ كسفيرٍ مُفوَّضٍ عن الإمام، وأخذَ البيعةَ لأهلها. غير أنّه لم يُتِمَّ مهمّته بتسليم الكوفة إلى الإمام، إذ نقضَ القومُ العهدَ، فكانت الخيانةُ مريرةً؛ مَن قدّمَ لهُ اليُمنى طعنهُ باليُسرى. شعرَ مسلمٌ بحسرةٍ ودمعةٍ وجرحٍ عميقٍ في قلبِه، لكنّه خاضَ معركةَ الأبطالِ حتى استُشهِدَ في سبيلِ مبدأِ الحقّ. وظلّت سيرتُه شاهدةً على الوفاء والإخلاص، إذ لم يخنِ العهدَ، ولم يتنازل عن ولائه للإمامِ الحسين حتى آخرِ لحظةٍ في حياتِه. وخضعَ أخيرًا لسيفٍ غادرٍ قطعَ رأسَهُ الشريف، وأُلقي جسدُهُ الطاهرُ من أعلى قصرِ الكوفة، وبقيت قصّتُه تُروى جيلًا بعد جيل، وتُذكَر في كلِّ عامٍ عبر الزمن.

وبأرض كوفان صَدَعت مجاهدًا
بالحق لم تك بالمداهن والجبان

وحشدْتَ للأمل العظيم سُيُوفَهِمْ
وأخذت موثقهم تُصانُ ولا تُخان

لكنهم نكثوا العهود وما رعوا
شرف الرجولة وارتضوا عيش الهَوَان

هم أسلموك إلى الحمام بغدرهم
ورموك لابن زياد مِن كَذِبِ الأَمَانُ

خدعوك فانخدعوا بطاغية العراق
أذاقهم بالذل أطراف السنان

8- قصيدة «وصيتي لكم»

كان الشاعرُ يتمنّى الشهادةَ مع حُمَاةِ الصلاة، على الطريقِ الذي سلكه سعيدُ بنُ عبدِ اللهِ الحنفيّ، ذلك البطلُ الذي وقفَ يومَ كربلاءَ حائطَ صدٍّ حولَ الإمامِ الحسينِ أثناءَ الصلاة. موقفٌ عظيمٌ يُجسّدُ قمّةَ القوّةِ والثباتِ، إذ كان يتلقّى السهامَ بصدرِه وجسدِه، ليحمي إمامَه في أقدسِ لحظاتِ العبادة. وبعد أن انتهتِ الصلاةُ، اعتذرَ سعيدٌ للإمامِ لأنّه لم يُقاتلْ بسيفِه، بل اكتفى بأن يكونَ خيمةً وجبلَ صدٍّ وسدًّا منيعًا أمامَه. ذلك موقفٌ من أسمى صورِ الفناءِ في سبيلِ الله، ومثالٌ خالدٌ للحبِّ والطاعةِ والوفاءِ في ذروتِها.

يا حماة الصلاة يا خير صَحْبِ
نصروا السبط، واستطابوا النداء

يا حماة الحسين حين أناس
ألفوا الذل واستلدُّوا الشَّقاء

أنتم اليوم بعضنا غير أنا
قد سبقناكم وجُزنا السماء

أنتم اليوم ثورة من صدور
تتلقى الرصاصة العمياء

في نهايةِ المطاف:

«مرّت علينا أيّامٌ تمنّينا أنْ يقفَ بجانبِنا أحدٌ، ولو من بابِ المجاملة. هي ذاتُها الأيّامُ التي علَّمَتْنا كيف نقفُ شامخين بمفردِنا…».

وهذه قراءةٌ قد تكون تعبيرًا قاصرًا عمّا يريدُ الشاعرُ من معنى، ولكنّ الكلَّ يقرأُ الصورةَ من عينٍ وإحساسٍ وتلمّسٍ لمعاني الكلماتِ والحروفِ وهمسٍ ولمزٍ يبقى لمن يقرأ؛ هو يوافقُ أو يرفضُ التعليق، وخصوصًا من الشاعرِ الذي تجاسرْنا بتصفّحِ ديوانه بهذه الطريقة، واجتزاءِ بعض الأبيات من قصائدِه.