آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

تيهُ الوجود

منذُ اللّحظةِ الأولى لخلقِ الإنسانِ كانتِ الغايةُ واضحةً، والهدفُ جليًّا، قال تعالى: ﴿وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَائكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي آلأَرضِ خَلِيفَة [البقرة: 30].

فوجودُ الإنسانِ على هذه الأرضِ لم يكن عبثًا، بل كان لغايةٍ عظيمةٍ، بأن يكونَ خليفةً للهِ فيها. غيرَ أنّ هذه الخلافةَ لا تتحقّقُ إلا حين يلتزمُ الإنسانُ بما أرادهُ اللهُ تعالى منه، ومخالفتُهُ لذلك تعني أنّه قد أضاعَ الهدف.

وهنا يبرزُ التساؤل: ما الذي أضاعَهُ إنسانُ هذا العصرِ حتى نقولَ مثل هذا الكلام؟

إنسانُ اليوم، أكثرُ من أيِّ زمنٍ مضى، قد أضاعَ الهدفَ بشكلٍ مدهشٍ ومؤلم. وليس الحديثُ عن المنحرفينَ أصلًا، بل إنّ هذا التيهَ قد زحفَ حتى إلى الساحاتِ الدينيةِ قبلَ غيرها. إنّه تيهٌ بكلِّ ما تحمله الكلمةُ من معنى، وضياعٌ غيّرَ بوصلةَ الاتّجاه، وانحرافٌ لم يُعرَفْ له مثيلٌ من قبل.

في هذا العصرِ، ومعَ التقدّمِ التكنولوجيِّ المذهلِ، أصبحَ الإنسانُ يلهثُ خلفَ زخارفِ الأمورِ وتفاهاتها، متناسياً جوهرَ وجوده. صارت أهدافُنا تتحقّقُ بالمظهرِ لا بالمضمون، وبالكمِّ لا بالكيف، وصرنا نغرقُ في التفاصيلِ الزائلةِ، ولا نملك أهدافا جوهرية.

لقد تغيّر مفهومُ النجاحِ في وعينا الجمعي؛ فبعد أن كان يُقاس بعمقِ الأثرِ ونقاءِ المقصد، صار يُقاسُ بعددِ المشاهداتِ والألقاب.

أصبحَ النجاحُ واجهةً أكثر منه قيمةً، ومظاهرَ أكثرَ منه جوهرًا. لم يعُد السؤالُ: ماذا قدّمت؟ بل: كم رآك الناس؟

وبهذا التحوّل، انقلبت الغاياتُ إلى أدواتٍ للمقارنة، وصار الإنسانُ يُقاسُ بما يملكُ لا بما يكون.

لقد صار وجودُنا في كثيرٍ من الأحيانِ بلا معنى حقيقيٍّ، نعيشُ لأهدافٍ ثانويةٍ ونتجاهلُ الهدفَ الأعظم. غايةُ ما نفكّرُ فيه لا يتجاوزُ حدودَ هذه الدنيا الفانية، نتصارعُ من أجلها، ونملأُ قلوبَنا بالأحقاد، حتى غدونا مستعدّينَ أن نتقاتلَ لأتفهِ الأسباب.

والأدهى من ذلك، أن تُترجَمَ بعض الصراعاتُ أحيانًا باسمِ الدِّين، وتُعطى بعض المظاهر شرعيّةً مزوَّرة. وهنا تكمُنُ الكارثة: حين يُصبحُ الخطاب الديني وسيلةً لتبريرِ التنافرِ لا لبناءِ الإنسان.

في مثلِ هذا الواقعِ، لا بدَّ أن نقفَ وقفةَ تأمّلٍ صادقة، وأن نعيدَ توجيهَ البوصلة. ونسألُ أنفسَنا: إلى أينَ نتّجه؟ وهل هذهِ الوجهةُ تُوصلُنا إلى الغايةِ التي من أجلِها وُجدنا؟ أم أنّها تسحبُنا إلى هاويةِ التيهِ في وجودِنا، حتى نحترقَ بجحيمِ غفلتِنا في يومِ حشرِنا وبعثِنا؟

إنَّه صوتٌ من عمقِ القلبِ يهمسُ لنا جميعًا:

علينا أن نعيدَ بوصلتَنا الآن، قبلَ أن يأتيَ يومٌ لا ينفعُ فيهِ التغيير ولا ينقذُنا فيهِ الندم.