آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

القُديح… عطاءُ أهلِ الخير حمى بيتَ أيتامٍ من العَتمة

عماد آل عبيدان

في القُديح، البلدة التي لا تنام عن جيرانها، انتفضت القلوب قبل الأيدي، وتسابقت الخطى قبل الحروف. لم يكن صباح ذلك اليوم عاديًّا، إذ حمل معه قصةً إنسانية ستبقى شاهدًا على أن المجتمعات التي تحفظ كرامةَ أضعفها، إنما تحفظ إنسانيتها كلها. نداءٌ قصير نشرته جمعية مضر الخيرية بالقديح على منصّاتها الرسمية، يشرح حالة أمٍّ وأربعة أيتام فقدوا والدهم وسندهم قبل سبع سنوات، وها هم اليوم يواجهون خطر فقدان منزلهم الوحيد بعد صدور حكم قضائي يقضي ببيعه في مزادٍ علني لتسديد المبلغ المتبقي من القرض العقاري. كان المبلغ المطلوب كبيرًا - مليونٌ ومئتان وخمسة وسبعون ألف ريال - والمهلة قصيرة، إذ حُدِّد يوم التاسع عشر من أكتوبر 2025 «27 ربيع الآخر 1447 هـ» موعدًا للمزاد. لكنّ عظمة القصة لم تكمن في الأرقام، إنما في ما حدث بعد ذلك.

ما إن أُطلق النداء، حتى اشتعلت القُديح نورًا من التكافل. صفحات التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى ساحاتٍ من الدعاء والتبرع والمشاركة، وبدأت الحملة تنتشر كضوء لا يُمكن حصره. دقائق قليلة كانت كافية ليصل الخبر إلى القرى المجاورة، ومنها إلى أنحاء القطيف، ثم إلى خارجها. فُتحت القلوب كما الحسابات البنكية، وتحوّل الرابط المخصص للتبرع إلى جسْرٍ من الرحمة تسير عليه النوايا الطيبة. بعضهم قدّم من حرّ ماله، وبعضهم تبرّع باسم فقيد أو والد راحل، وبعضهم نشر المنشور بصمت لعلّه يُحدث أثرًا في غيره. لقد استيقظت فطرة الخير الكامنة في كلّ إنسان حين يسمع أن بيتًا مهدّدًا بالسقوط فوق طفولةٍ لم تزل ترتجف.

وفي أقل من أربعٍ وعشرين ساعة، سُجّل ما لم يحدث من قبل في تاريخ الحملات الخيرية المحلية: اكتمل المبلغ المطلوب بالكامل. مليون ومئتان وخمسة وسبعون ألف ريال جُمعت في يوم واحد. أعلنته الجمعية في بيانها الرسمي بعبارة بسيطة لكنها تختصر عالَمًا من المشاعر: «شكرًا لكم، اكتمل المبلغ.» فكان الشكر من قلوب ودعوات بفعل خير ترجمة لعناق اجتماعي صادق بين أهل الخير ومن هم بأمسِّ الحاجة إليه.

وشهدت الحملة تضامنًا نوعيًّا من جهات عدة: فقد ساهمت جمعية تاروت الخيرية بمئة ألف ريال، وشاركت جمعية القطيف الخيرية بستين ألفًا، بينما أتى الباقي من تبرعات الأفراد الذين فاقت أعدادهم الأربعة آلاف متبرع خلال ساعات معدودة. كلّ ريال كان يحمل حكاية؛ حكاية موظف اقتطع من راتبه، أو طفلة أصرّت أن تضع من مصروفها، أو عائلة قررت أن تجعل من هذه الحملة صدقةً جاريةً لفقيدها.

ولأنّ جمعية مضر مؤسسة راسخة بثقة المجتمع والجهات الرسمية، لم يحتج أحد إلى أن يسأل: «من هؤلاء الأيتام؟ وأين يقع المنزل؟» فالسرية هنا احترامٌ وكرامة لا حجبًا. الملفات محفوظةٌ في سجلات الجمعية بدقة وخصوصية تليق بالمؤتمنين على حاجات الناس. هذه الثقة المتبادلة بين المجتمع ومؤسساته الخيرية هي ما جعل الحملة تسير بهذا الهدوء وبهذا الإخلاص، وتنجح دون صخب أو تشكيك.

ما حدث في القُديح كان مشهدًا متكاملًا للتكافل المدني الواعي، الذي يعرف كيف يواجه الأزمات بحكمة وتنظيم لا بمجرد تبرعات فقط. لقد تحوّل الخوف من المزاد إلى بشارة بالنجاة، وصار اليوم الذي كان يُنتظر فيه فقدان البيت عيدًا صغيرًا للأمل. أمٌّ وجدت نفسها محاطةً بدفء الناس لا ببرود القانون، وأيتام أيقنوا أن مجتمعهم لا ينسى أبناءه مهما تباعدت البيوت وتغيّرت الأجيال.

ومن اللافت أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، التي كثيرًا ما تُتَّهم بإثارة الضجيج والسطحية، كانت هذه المرة منبرًا للنور. تغريدة واحدة أو منشور على «واتساب» تحوّل إلى شعلة أشعلت سلاسل من الخير. الكلمة الطيبة وصلت أسرع من الإعلان، والمبادرة سبقت القرار. هنا يتجلّى الوجه الحقيقي للفضاء الرقمي حين يتولّاه أصحاب النوايا الصافية: يصبح الأثيرُ مساحةً للكرامة لا للضجيج.

في ختام المشهد، لا يمكن للمتأمل إلّا أن يرفع القبعة والدعاء احترامًا لهذا النسيج الاجتماعي الذي يُعيد تعريف معنى «الجيرة» و«المسؤولية». فالقديح، التي طالما كانت حاضنة للعلم والخير والعمل التطوعي، أثبتت أنّها قادرة على أن تُدهش الوطن من جديد. لقد صانت بيتًا من العتمةِ، وربحت ما هو أثمن من المال: احترام الجميع وإعجابهم وإيمانهم بأن الخير باقٍ ما دامت الأرواحُ نقيّة.

سلامٌ على كلّ يد امتدّت، وكلّ قلب بادر، وكلّ قلمٍ نشر، وكلّ من آمن أن إنقاذ بيت واحد هو إنقاذ لروحِ أمةٍ كاملة. وسلام على القُديح… بلدة حين تفيض بالعطاء، يضيءُ الوطنُ كلّه.