آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 7:11 م

المعلم… هندسة النور في زمن الظلال

ليس في الكون مهنة توازي المعلّم إلا النور نفسه؛ كلاهما لا يُرى في ذاته، بل تُرى به الأشياء.

وفي كل حضارة كانت أول علامات النهضة هي تكريم من يعلّم، لأن الأمم تُقاس لا بما تبنيه من حجارة، بل بما تشيّده من عقول.

المعلّم هو المعادلة الأكثر تعقيدًا في الوجود الإنساني: عقلٌ يزرع العقول، وروحٌ تُعيد تشكيل الأرواح.

إنه لا يقدّم المعلومة فحسب، بل ينسج داخل كل طالب خريطةً داخلية للمعنى، تجعل الحياة نفسها درسًا ممتدًا.

حين يدخل المعلّم فصله، يدخل التاريخ من بابه الأوسع؛ إذ إن كل فكرة تومض في ذهن تلميذ، وكل قيمة تتجذر في وجدان طفل، هي امتداد خفيّ لمعلّمٍ مجهول الاسم لكنه خالد الأثر.

المعلّم لا يزرع شجرة واحدة، بل غابة من الإمكانات الإنسانية، يسقيها بالصبر والإيمان والرؤية.

هو الذي يؤمن بالإنسان قبل أن يكتمل، ويحتفي بالبراعم قبل أن تصير ثمارًا.

هو الذي يرى في كل تلميذ مشروعًا للدهشة، وفي كل عقل صفحة قابلة للفتح من جديد.

وفي عالمٍ تزدحم فيه الأصوات، وتتنافس فيه الشاشات على تربية الأجيال، يبقى المعلّم هو الضمير الأخلاقي للتاريخ؛ هو من يذكّرنا أن التربية ليست تلقينًا، بل بناءُ إنسانٍ يعرف لماذا يعيش، وكيف يكون جميلًا حتى في فكره.

المعلّم الحقيقي لا يورّثنا معلومة، بل أسلوبًا في النظر، وميزانًا في الفهم، وضميرًا في الاختيار.

هو الذي يجعل من العقل مصباحًا لا مرآة، ومن القلب بوصلة لا خزانة.

إنه لا يعيد إنتاج العالم، بل يعيد ترتيب الفوضى داخله، ليجعل من كل تلميذ نسخة أفضل من نفسه.

قد تغيّرت المناهج، وتمدّدت التقنية، لكن أثر الكلمة الأولى التي خرجت من فم معلّمٍ صادق، لا تبهت ولا تتقادم.

فالمعرفة الرقمية مهما بلغت، تظل بلا روح إن لم يمرّ عليها دفء إنساني صادق من معلّمٍ أحبّ ما يصنع.

ولذلك، حين نحتفي باليوم العالمي للمعلم، فإننا لا نحتفي بشخصٍ واحد، بل نحتفي بأصل الحضارة كلّها.

كل مَن تعلّم حرفًا، أنقذه معلّمٌ.

وكل أمة أنارت طريقها، كان في أول القنديل معلّمًا.

فلنقف في هذا اليوم احترامًا لا لمهنةٍ بل لرسالة.

رسالة تذكّرنا أن الله حين أراد أن يكرّم الإنسان علّمه.

وحين أراد أن يُنير الكون قال: ﴿اقرأ .

فالمعلّم هو امتداد لتلك اللحظة الإلهية الأولى، التي فُتحت فيها نافذة النور على عقل الإنسان،

ولذلك يبقى المعلّم — في كل زمان — صوت البداية، وذاكرة المعنى، وملامح المستقبل.

دكتوراه في فلسفة العلوم النفسية وباحثة دكتوراه في الأدب والنقد