آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 7:11 م

حبيبنا من يكون

عبد العظيم شلي

ثمة أشخاص لا يأتون للحياة كعابر سبيل، ولا يمرون في الدنيا مرور الكرام، بل يمضون في مناكب الأرض دون هوادة، تقودهم بوصلة الوعي إلى حيث يريدون، إلى حيث يشتهون، حاملين جذوة الأمل واليقين، مدركين بأن الحياة جميلة تستحق أن تعاش، فقد سعوا بكل ما أوتوا من قوة وشدة بأس، ليكون لهم عنوان على صفحات الحياة المتعددة، مثل كتاب ثمين يقرؤه بتأمل القاصي والداني، فجاء خطوهم له رنة وفعلهم له صدى يتردد في الآفاق، لم يعتمدوا على الحظ أو صدفة، بل آمنوا بالكفاح والعمل وعرق الجبين، لم يألفوا العيش على الهامش أو الركون للفتور والصمت الخامل، ولم يأبهوا بالنقد أو القيل والقال، بل تركوا الثرثرة جانبًا ولغو الكلام، آمنوا فقط بالاشتغال الجاد المتوج بالإنجاز. وأبعد من ذلك لم يكتفوا بما حققوا أو الاكتفاء بما أنجزوا، بل رفدوا العمل بالعمل لأن ديدنهم النجاح تلو النجاح، هم في سعي دائم دون تثاؤب، متجاوزين خطوهم السابق مشغولين باللاحق وما بعده، ينفرون من التسويف وخصمهم الراحة والدعة، لأنهم دائمِي الحركة والوثب الطويل في كل الاتجاهات، وعلى مدى محطات العمر، محققين الإنجاز تلو الإنجاز.

هم أشخاص جبلوا على ذلك فلله ذرهم من أشخاص هم مثل عُلًى لمن شاء على دربهم أن يسير.

حين ننظر لمن وهبهم الله تلك الصفات القيمة والسامية، وقد استثمروها أيما استثمار، يبرز لنا وجه رسخ في وجدان الناس كأنشودة فرح، متغلغل في ذاكرتهم، يتلألأ على مدى عقود من الزمن، إنه الدكتور عبدالله حسن منصور آل عبدالمحسن أحد أبناء جزيرة تاروت البررة.

هذا الإنسان حباه الله بمواهب عدة، فمنذ نعومة أظفاره تميز في قاعة الدرس، ودروب اللعب، بعقل متفتح وذهن متوقد، ذو ذكاء فطري واستعداد نفسي لتلقي العلم والمعرفة، فكان مبرزًا في كل مراحل دراسته، تفوق قاده للحصول على الشهادات العليا ”الماجستير والدكتوراه“.

قد يكون هذا طموح الكثيرين أو رغبة شخصية وهو حق مشاع لكل طامح وساعٍ في الحياة، لكن أبا فراس لم يقف عند هذا التحقق الذاتي أو الاكتفاء العلمي بالحصول على أرفع الشهادات أو مكتفيًا بما وصل إليه من وظيفة مدير مدرسة ثانوية أو رئاسة نادٍ رياضي، بل ذهب في اتجاهات متعددة محققًا طموحًا مفتوحًا في كل الميادين.

وبالرجوع لبواكير العمر، والحفر في ذاكرة الزمن، وهنا العيون شواهد والقلوب تنبض بما شعرت وأحست وتفاعلت به كشخص مختلف عن أقرانه، فمنذ أن كان صبيًا مرورًا بسنين الشباب الأولى، ديدنه التفوق، ضمن الشراكة المجتمعية، سواء داخل المدرسة أو بين أروقة الأندية، استهوته الكشافة وعالم التمثيل، وكتابة الصحف الحائطية، نشاط متوازٍ مع الفرق الرياضية المتعددة «المنار، النسر، الهدى»، ومن هذه الأندية غدا اسمًا لامعًا في كل نشاط وفعالية، فعلى مستوى لعب كرة القدم فهو اللاعب الأبرز من بين لاعبي أندية القطيف، لكن الظرف والانشغال بالدراسة لم يُتح له الانتشار بشكل واسع ليأخذ دوره مثل الذين سطع نجمهم في الملاعب، فهو لاعب جوكر يلعب في جميع المراكز، ويملك قدرة هائلة على المراوغة بالكرة ينذر أن تراها عند غيره، لديه إمكانيات فذّة لمحاورة كل اللاعبين طول الملعب وعرضه، يصوب الكرة تهديفًا في كبد المرمى، وكم تغنت الجماهير بجماليات لعبه وأسلوب فنه،

رقص اللاعبين وأطرب الحاضرين وهتف الجميع على وقع تسجيل أهدافه، ليت ذاك الزمن توفرت فيه كاميرا فيديو لتصور روعة لعبه لتكون شاهدًا حيًا على ذلك، ومن لم يدرك زمن لعبه فلينظر للاعب السعودي يوسف الثنيان فالشبه بينهما كبير.

ومن الملاعب إلى أبو الفنون ”المسرح“، فقد عشقه منذ الصغر، مغرمًا بالتمثيل وعوالمه، رشاقة جسمه مكنته من القيام بالأدوار الصامتة، دراما حركية من دون كلام أو ما يسمى بالتمثيل الإيمائي «البانتوميم - Pantomime»، مرونة جسمه التي ساعدته رياضيًا استثمرها مسرحيًا، بخفة حركة وسرعة بديهة ومن أبرز أعماله الصامتة تمثيلًا وتأليفًا: «تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه -1976» و«سبع صنايع والبخت ضايع - 1977»، فقد أجاد التمثيل بالحوار ومن دونه، فهو أحد المؤسسين الفعليين للنشاط المسرحي في نادي النسر منذ بداية السبعينات الميلادية ثم نادي الهدى قبل وبعد التسجيل الرسمي، هو الدينمو المحرك لكل حفل، والركن الأساس لغالبية حفلات نادي الهدى بتاروت، وقد أسهم بالعديد من المسرحيات الموجّهة للكبار تأليفًا وتمثيلًا، وأشهرها: «حرام حرام»، «لك يوم يا ظالم»، «مال البخيل يأكله العيار»، «حكايات جدتي»، «الفار في الشنوكة»، «الغواص» وغيرها من المسرحيات التي بدأت انطلاقتها من على خشبة نادي الهدى بتاروت وأغلبها مجدولة ضمن برنامج حفل منوع كانت تعرض في ليالي الأعياد ومسابقات الأندية السعودية.

ومن هذه الأجواء الاحتفالية الفنية تنبه باكرًا لعالم الصغار، ووجد ضالته فيهم بشغف، فقد استكشف وجوه البراءة، بعد أن زرع فيهم الإقدام والجرأة، ومدهم بالشجاعة أمام الجمهور، فصعدهم على خشبة المسرح عبر مسرحيات الأطفال المتتالية: ”لكريكشون 1976، لشراك 1977، المعلم 1979، الألعاب الشعبية 1983“، وبعضها أحرز المركز الأول على مستوى أندية المملكة، هذه مسرحيات الصغار المتنوعة هي السباقة قبل الجميع، فهو من وضع اللبنات الأولى لمسرح الطفل، ليس على مستوى المملكة فحسب، بل على مستوى الأقطار الخليجية، فغدا هو المؤسس الأول لمسرح الطفل في الخليج، ثم توالت تأليفاته وإخراجه لمسرحيات الأطفال بعد حقبة السبعينات بمسرحيات متعددة، ومنها على سبيل المثال:

«الكراز، الكنز، مغامرات عبود، أرنوب في خطر، المغامر، الثعلب المكار، غيري جنى، جزاء الأمانة، علي بابا، الوحش، الفضاء، السعادة».

ولا زال يرفد مسرح الطفل بالمسرحيات من حين لآخر، لأن حبه للمسرح يسري في عروقه، ولم يشبع من عوالمه، ردح متسق بين المنصة والنص متلونًا بين الواقع والخيال، شغفه بالمسرح متأصل منذ عهد الصبا مؤلفًا وممثلًا وناقدًا وباحثًا وإلى اليوم، الأمر الذي مكنه من الصعود لمنصات التتويج خليجيًا وعربيًا بشهادة الجميع، لأنه أحد صناع مسرح الطفل. فقد كُرّم في قطر عام 2008 م ضمن مهرجان أدب الطفل في العالم العربي، ومرة أخرى في الدوحة كُرّم باعتباره رائدًا في مسرح الطفل، وكُرّم على مستوى المملكة أكثر من مرة، وتوالت التكريمات في البحرين والكويت وفي جمهورية مصر العربية وفي بولندا وكندا ضمن مهرجان مسرح الطفل الدولي، وبلغ عدد التكريمات التي تحصل عليها 14 تكريمًا، بالإضافة لعضوياته المتعددة في أكثر من كيان فني وثقافي محلي وعربي.

هذا التألق رفع راية منطقته ووطنه، فالجميع يعتز به ويفخر، وقد انعكس فضاء المسرح توريثًا إيجابيًا لابنه حسين، فقد عشق المسرح هو الآخر ماشيًا على خطى أبيه.

الدكتور عبدالله لم يكن عاشقًا للمسرح فحسب، بل صديقًا مقربًا من القلم، يده والقلم توأمان، خطت أنامله كتبًا في كل علم وفن تربو على أربعين كتابًا، من علم النفس والاجتماع والقضايا التربوية والشؤون المدرسية، والتاريخ، ويمتلك ذخيرة في تأصيل الفلكلور وبعثه حيًا عبر كتب متعددة: «من تراث جزيرة تاروت»، «الألعاب الشعبية في القطيف»، «الأمثال الشعبية في الساحل الشرقي»، «الطب الشعبي في الساحل الشرقي»، «الألعاب الشعبية في دول الخليج العربي»، بالإضافة لقرضه للشعر وتوثيق الموال ورصده للشعراء: «شعراء القطيف المعاصرون»، وإبرازه الشاعر الشعبي القديم المعروف بـ عيسى المحسن، في كتاب «ديوان عيسى التاروتي أحد شعراء الزهيري في الخليج»، فهو يعد واحدًا من حفظة التراث الشعبي عبر سلسلة كتب متنوعة، تناقلتها الناس قراءة وحفظًا بمختلف الأعمار.

إصدارات متلاحقة ومتنوعة منذ أكثر من أربعة عقود، حتى غدت الآن مرجعًا لكل باحث ومهتم في شؤون وشجون تاريخ المنطقة. نصيب كبير من يراع الدكتور محفوظ عبر مجاميع كتب ثرية تزين مكتبة كل بيت. قلوب تلهج بترداد اسمه كأيقونة نجاح، فمن لديه قريحة متعطشة للعمل الدؤوب وبحب الحياة بشكل متجدد ونفس لا تكل ولا تمل في كل ميدان وفن، فلير ما أنجزه الدكتور عبدالله حسن منصور آل عبدالمحسن، فسيعلم علم اليقين بأنه قبيلة من الشخصيات الثرية متمثلة في كيان اسمه عبدالله آل عبدالمحسن، فقد أصبح علمًا مرفرفًا في كل ميدان، ينذر أن تجتمع بمثل هذه المواهب المتعددة في شخص واحد، فقد ترك أثرًا في كل مناحي الثقافة والفن والإبداع، نراه شخصية ملهمة وشعلة مضيئة عبر الزمن.

يا عزيزنا عرفناك منذ عقود من تكون، فأنت حبيب عند أجيال من طلابك في تاروت المتوسطة وثانوية القديح والقطيف والدمام، الذين يذكرونك بكل خير ويفاخرون بأنك كنت يومًا أستاذهم ومديرهم، حبيب عند زملائك المدرسين في قاعات الدرس لمدة أربعين عامًا، حبيب عند المخضرمين الرياضيين والمحدثين، أحببت الأرض التي ولدت فيها حبًا جمًا، وبادلتك الحب فاستخرجت كنوز آثارها، دونت شعراء بلاد الخط، ونقبت في أديمها، وهِمت في هوائها وصفًا وتفصيلًا وتراثًا وتاريخًا، فأحبك الناس يا عازف لحن الأرض التي تنتمي إليها، مسكون بحبها وأهلها الطيبون، ومن مثلك ألا يحب؟ أنت شعلة وضّاءة وعطاء متواصل.

يا حبيبنا ما حالك اليوم؟ رسائل الشوق تحن إليك، واللهفة تسأل عنك، يا حامل مشعل التألق قلوبنا تخفق لك بالدعاء، بأن الله يمن عليك بالشفاء، شفاءً عاجلًا غير آجل، فقد طال بعدك عن الأهل والخلان، القلم يناديك، المخطوطات المخبأة في الأدراج تنتظرك، أحلامك المؤجلة تبحث عنك، الأحباب والمعارف مشتاقون إليك، ويامن قرأت هذه المقالة لا تنسَ أستاذنا الكريم من دعائك، فهو في أمس الحاجة للدعاء.

يارب يا كريم البسه ثياب العافية،

وارجعه للديار سالمًا.