آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 7:11 م

ترحمات على حبيب سكن النفوس

عبد العظيم شلي

غائب عن الديار في سفر، والحواس منجذبة لكل ما ترى والتصوير حاضر، لكن القلب متعلق بالأهل والخلان والأحباب والأصحاب كحبل سُرّي أثيري، اطمئنان يومي بأن الأحوال بخير.

اطل صبح جميل والهمة معقودة لعوالم الاكتشاف، ففي السفر تنسى الزمن من سحر ما ترى لكن لا تنسى أخبار الوطن. عبثًا رحت أتصفح أحدث الرسائل النصية عبر جوالي، وإذا بي أقرأ التالي: «وصلتنا مساهمة باسمك أستاذ عبد العظيم شلي، إهداء من عبد الله حسن آل عبد المحسن» مديلة برابط. أصبت بحيرة من فحوى الرسالة التي لم أعهدها من قبل، ترددت أن أفتح الرابط خشية أن يكون فخًا منصوبًا، وكدت أن أمسح الرسالة كاملة من منطلق: لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين! وحتى أقطع الشك باليقين، صورت الرسالة وبعثتها للأستاذ فراس العبد المحسن مستفسرًا عن فحواها، جاءني الرد منه تأكيدًا: «هذه صدقة للجمعية وقد وهب ثوابها لك، لك معزة خاصة عند الوالد حفظه الله، ولكي يذكره محبوه بالدعاء ويعم الثواب».

وبين التقدير وخالص الامتنان لأستاذي الفاضل، وبدعوة ملهوفة لرؤياه عما قريب وهو يرفل بثياب العافية، زارني حالِمًا.

لمحته من بعد يشرف على مجريات حفل من حفلات نادي الهدى زمن السبعينات الميلادية، والمكان ليس مسرح النادي إنما باحة مدرسة الربيعية الابتدائية. شاغلت نفسي في إحدى الفصول برسم وسيلة تعليمية، وبعد أن فرغت منها اكتشفت بأن الستارة تغلق معلنة نهاية الحفل. حين انفض السامر، رحت أركض بين الجموع الخارجة لأفتش عن أستاذي لأقدم له اعتذاري لعزوفي عن المشاركة وكأن الحفل لا يعنيني، وهو الذي عهدني ردحًا من الزمن أقف خلف كواليس الحفلات ضمن طاقم مهمته تغيير الديكور والخلفيات. بكيت كالطفل لأني لم أره، سرت وحيدًا في الظلام مستوحشًا، وإذا بي أدنو من مسجد الخضر ببنائه القديم، تنبعث منه آيات الذكر الحكيم!

كتمت الحلم ولم أخبر به أحد.

بالأمس صباح الأحد وصلت للديار، منهك القوى نتيجة الانتقال بين المطارات وعدم النوم، لكن رؤية الأهل والأعزاء أنستني كل تعب.

عند حلول المساء ابتهجت بحضوري لمعرض «گالري ضاوي» الجديد بالخبر لنخبة من رواد الفن التشكيلي بالمنطقة الشرقية، سرّني ما رأيت لمعانقة الصحب القديم: قبلات، حوارات، بهجة وتألق أنفس عاشقة للفن، والتي ما زالت على الدرب تسير. خرجت والمسرة تسبقني عبر الدرب برفقة الإخوة الأعزاء الفنانان منير الحجي وحسن أبو حسين.

دخلت البيت منتشيًا مسرورًا، قابلت زوجتي وهي تقول لي: «قوّاك الله». صمتت برهة تتأمل وجهي، وأردفت: «عظم الله أجرك، أبو فراس انتقل إلى رحمة الله»!

جحظت عيناي مندهشًا من صدمة الخبر! يا إلهي هل هذا صحيح؟ فجأة انطفأ الفرح، وكأن أحدًا وجّه لي كفًا على خدي، جلست متسمرًا مكلومًا أسبح في بحر الأحزان.

أسندت ظهري وفتحت الجوال، وإذا بسيل من التعزيات كأنها توابيت تتراقص أمام ناظري. أتهجى خبر الوفاة بأنفاس مقبوضة: «الدكتور الحاج عبد الله حسن منصور آل عبد المحسن في ذمة الله». أزفر الآهات، وطيف الراحل يلفني كرداء من حرير ويسافر بي لفضاءات عبر سنين خلت، ويزجني بين حنين الذكريات.

يا أبا فراس، أي مشهد أقلبه لعمر مضى؟ وأي لحظات من البهجة والعمل الدؤوب أستعيدها وأنت الآن في حضرة الغياب؟ قرأتني وأنت على السرير الأبيض لمقالتي عنك بعنوان «حبيبنا من يكون»، غايتها رفع الأكف لك بالدعاء. وكنت تنتظر مني حلقات مطولة منذ بضعة سنين لتدوين مسيرتك الحافلة بالإنجازات على غرار سلسلة الفنان عبد الستار الموسى، والتي أعجبت بها أيما إعجاب. كانت الأمنية مشتركة بيننا، ولتحقيقها لابد من فتح خزائن محطاتك كاملة، والدخول في معمعة تفاصيل التفاصيل لأنتقي ما يصلح ويرتقي للتدوين والنشر. وكم تأجل الموضوع عدة مرات بسبب تضارب أوقاتنا، أكون مستعدًا لكنك مشغول أو مسافر، والعكس بالنسبة لي. أيضًا التراخي والتسويف سرقا منا الجاهزية وتراجع الحماس، وإن كانت جذوة الأمنية لم تخبُ في نفوسنا، كلما تقابلنا من حين لآخر تتجدد وتنكفئ في آن، وكأن الزمن مفتوح لنا بسعة الأمل. سهونا عن هادم اللذات الذي يتربص بالأحباب خلسة ويخطف الأعمار شيوخًا وشبابًا.

الآن وبعد أن غادرتنا، كم أعض أصابع الندم لعدم استغلال فرصة حضورك بيننا. صحيح أعرف عنك أشياء هي في الأساس معروفة للعامة ولمن زاملك عن قرب في الأندية وميادين اللعب وأروقة العلم ومساحات العمل، لكني كنت توّاقًا لتسجيل كيف ارتقيت سلالم النجاح وعبرت دروب الحياة بين الفن والكتاب والقلم والأسفار.

كنت شاهدًا على بعض مؤلفاتك المبكرة، لأنك وهبتني شرف رسم أغلفة إصدارات كتبك الأولى، بدءًا بغلاف كتاب «من تراث جزيرة تاروت - 1986» والمزوّد بلقطات من عدستي وغيري من المصورين، ومرورًا بثلاثة كتب أخرى: «الأمثال الشعبية في الساحل الشرقي للمملكة العربية السعودية - 1987»، و«أسباب ضياع الشباب في المجتمعات الإسلامية - 1987»، و«شعراء القطيف المعاصرون - 1994». كتب قيمة أسهمت بتعريف عمق حضارة المنطقة وآدابها ومنطق أهلها الأصيل وتراثهم اللامادي الغني بالفكر والمعرفة. وفي ذات الوقت ساعدتني شخصيًا لترويج اسمي فنيًا.

ولي نصيب أفخر به لأول مسرحية للطفل قدمها الدكتور عبد الله، المعنونة بـ «لكريكشون - 1976» على خشبة مسرح نادي الهدى. رسمت زقاقًا ممتدًا طولًا وفي الجوانب منازل الديرة، لتكون خلفية للممثلين الصغار. هي في الأساس الفكرة منطلقة من مهندس الحفلات المهندس جاسم سهوان، وثناء بثقة مطردة من مؤلفها لإتاحة الفرصة لرسام ناشئ. وعلى أثر ذلك كُرمت من بعض الأهالي، وحازت الخلفية على رضا جماهير الحفل.

وتوالت حفلات نادي الهدى بجزيرة تاروت، فكل حفل له حكاية وذكريات جمة لا يسع المجال للخوض في محتوياتها وسرد تفاصيلها. وحين أفلت تلك الحفلات الساهرة المنوعة، وآخرها حفل 1983 م، بسبب تغير مزاج الناس، الذي لم يرحب لا بالموسيقى ولا بالتمثيل نتيجة متغير إقليمي، وكأن الفن الهادف رجس من عمل الشيطان، باتت الحفلات غير مرحب بها مجتمعيًا. ومن هنا، أبو فراس لم يتوقف أبدًا عن تأليف المسرحيات خصوصًا للصغار، تعاون مع الجميع وتعرف على وجوه شابة من أنحاء القطيف: جماعة ماهر وعاطف الغانم ومهدي الجصاص وغيرهم. عروض مسرحية موجهة للأطفال، وتوّجها بمسلسل «أهل الديرة»، لكنه مع شديد الأسف لم يُعرض على التلفاز لفكرته الغريبة، لأن مقص الرقيب كان له بالمرصاد.

إن رصد العقبات التي واجهها أبو فراس في إفساح نصوص أعماله الدرامية موّال موجع، لكنه لم يتراجع ولم يستكين. كل التكريمات التي حصل عليها خلفها كثير من المعاناة والمكابدات.

أستاذ عبد الله، هكذا كنا نناديه دائمًا وبين أنفسنا حتى بعد أن أصبح دكتورًا، نتيجة تعوّد ألسنتنا بخفة المناداة، ودلالة الاسم عمليًا ملموسًا، فهو أستاذ في فن الكرة، أستاذ على خشبة المسرح، أستاذ في الصف وإدارة المدارس، أستاذ في إدارة النادي، وأستاذ في توصيل الفكرة بسهولة ويسر. والأبعد من هذا وذاك: أستاذ بخلق رفيع وتواضع جم، بعيدًا عن المناكفات والجدل العقيم، خفيض الصوت، زارع الابتسام في كل محفل، وله قدرة جذابة أشبه بالمغناطيس لدفع المتعلم والرياضي قدُمًا لتحقيق الإنجاز تلو الإنجاز. مستحيل أن يوبخ مخفقًا، يأخذ بخواطر الصغير والكبير لمجرد اختلاف بسيط في وجهات النظر. ما أظنه زعل أحدًا، لأنه لا يعرف الزعل ولا حتى العتب. وفي سجل الكثيرين ممن عاشروه شهادات جمة. ناموسه «لا يأس مع الحياة». كان يحب الخير للجميع ويفخر بكل متفوق، ويربت على أكتاف كل حزين. لذا أحبه الناس لأنه كان يحب الناس بمنتهى الصدق والإخلاص.

يا أبا فراس نم هادئًا مطمئنًا، فقد أنجبت ذرية صالحة بارعة في حقول العلم وأروقة العمل، بهم نفخر مثل إنجازاتك الشامخة العابرة للحدود. كنت عنوانًا لمعاني النصح والإرشاد وقيم العطاء.

سافرت عنا للأبد، لكن زرعك مساحة خضراء لا تذبل. سلامًا على من حبه باقٍ في النفوس.

إضاءة للذكرى:

منذ أحد عشر عامًا، أقام منتدى الثلاثاء حفلًا تكريميًا للدكتور عبد الله العبد المحسن، في الموسم الرابع عشر للمنتدى عام 2014 م. تحدثت شخصيات عن مكانة المحتفى به من جوانب عدة، وقدّم خلال الحفل «روبرتاج» أشبه بفيلم وثائقي مدته 16 دقيقة تحت عنوان:

«د. عبد الله حسن منصور آل عبد المحسن.. عطاء متجدد»

تصوير: مؤيد الحمران

إخراج: سعيد الجيراني

نص وإلقاء: عبد العظيم شلي.

مع مرور الأيام فقد الفيلم، وظل موثقًا ضمن الاحتفالية، لكن يشوبه عدم الوضوح والبتر في المقدمة. نأمل يومًا أن نعثر على النسخة الأصلية للفيلم.