آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 1:30 م

فن الإدارة حيث تُختبر القيم وتُقاس العقول

فوزية الشيخي *

قرأت عبارة جميلة لفتت نظري وحفّزتني لكتابة مقالي هذا. تقول العبارة: عندما يكون الشخص أكبر من المنصب، تجده متواضعًا وعادلاً ومنتجًا، وعندما يكون المنصب أكبر من الشخص، تجده مغرورًا وظالمًا وأحمق.

هذه العبارة ليست مجرد ملاحظة إدارية، بل مبدأ من مبادئ القيادة الحقيقية.

بلا شك، المناصب لا تصنع الأشخاص بل تكشف حقيقتهم. في عالم الإدارة، لا يُقاس النجاح فقط بما يُنجز، بل بكيف يُنجز، وبمن يُنجز، ولمن يُنجز.

وهنا تظهر الفروقات بوضوح، فهناك من يرتقي بالمنصب لأنه يحمل في داخله ما هو أعظم منه، وهناك من يتضخم به لأنه لا يملك ما يكفي من الوعي والحكمة لاستيعاب مسؤوليته.

الشخص الناضج لا يرى في المنصب تاجًا، بل أمانة. ولا يتعامل مع السلطة على أنها تفوّق، بل مسؤولية.

ولذلك نراه يظهر بثلاث صفات أساسية، هي: التواضع، والعدالة، والإنتاجية.

فالقائد الحقيقي لا يتحدث عن نفسه كثيرًا، بل يستمع للآخرين. وهو يعرف ويعي جيّدًا أن النجاح ليس فرديًا أبدًا.

القائد الحقيقي لا يفرّق بين الموظفين، ولا يجامل المقرّبين، ولا يعاقب المختلفين معه في الرأي.

فالعدالة لديه ليست خيارًا إداريًا، بل مبدأ إنساني. ولأن عقله أكبر من كرسيه، فهو يكون دائمًا مشغولًا بالنتائج لا بالهيبة.

أما إذا كان الشخص أصغر من منصبه، فالنتائج ستكون كارثية. هنا يصبح المنصب كالثوب الواسع، يضيع فيه صاحبه، ويحاول أن يتصرّف تصرفات هشّة وغير منطقية ليغطي بذلك ضآلة فهمه.

وبالتالي يتحول المنصب في عينيه إلى وسيلة للتفوق الوهمي. يظن أن الأمر والنهي، ورفع الصوت، والتوقيع بالقلم، دليل عظمة، لكن الحقيقة التي لا تقبل الشك أن الغرور هو أول علامات الجهل بالقيادة.

ويكون نتاج عدم الثقة هو اللجوء إلى القمع بدلًا من الإقناع، وإلى التهميش بدلًا من الاحتواء، وإلى العقوبة بدلًا من التوجيه.

ظلمه ذاك نابع من ضعف داخلي يغلفه بالقوة المصطنعة.

إنّ الحمق الإداري لا يظهر فقط في اتخاذ قرارات غبية، بل في إهمال المعرفة، ورفض النصيحة، والاستعلاء على التعلّم.

ومع الأسف، في عصرٍ يمتلئ بالشخصيات الجذابة، أصبح من السهل الخلط بين الكاريزما والقدرة، وبين الهيبة والحكمة.

لكن الإدارة، في جوهرها، ليست مسرحًا للتمثيل، بل موقعٌ للتأثير والبناء؛فالقائد الحقيقي هو الذي يُلهِم لا يُخيف، هو الذي يُصلِح لا يُحطّم، هو الذي يُربّي لا يُروّض، هو الذي يقدّر لا يُحقّر، هو ذلك الشخص إذا ما غاب بقي أثره، وإذا حضر عمّ نفعه.

لذلك من الجيد جدًّا أن نُعدّ أشخاصًا أكبر من المناصب، ولن يكون ذلك إلّا بالتعلّم المستمر؛فالقائد لا يتوقف عن التعلّم، فالمناصب لا تعني الكمال. المنصب تكليف، لا وسيلة لإثبات الذات.

وأخيرًا، قد يُمنح المنصب لأي أحد، لكن ليس كل من يجلس على الكرسي يستحقه.

القائد الحقيقي لا تخلقه الألقاب، بل تبنيه القيم، وتصقله التجارب، ويقوّيه التواضع.

فكن أكبر من منصبك، ليكبر بك من حولك. ولا تجعل منصبك أكبر منك، فيسحقك حين تسقط عنه.