آخر تحديث: 5 / 12 / 2025م - 11:57 ص

وجوه لا تنسى: ”المعلم إبراهيم اسعيد“ سيرة جيل وبصمة تعليم

حسن محمد آل ناصر *

في كل مجتمع هناك رجالٌ حملوا مشاعل النور في زمن العتمة وبذلوا أعمارهم في بناء العقول قبل أن تُشيَّد المباني ومع ذلك كم هو مؤلم أن يظل كثير من هؤلاء الرواد بعيدين عن منصات التكريم لا يُذكرون إلا في ذاكرة طلابهم أو بين أوراق عائلية متفرقة، إنهم المعلمون الأوائل الذين صنعوا الفرق ورسموا مستقبل أجيال بعرقهم وجهدهم وصبرهم بينما بقيت أسماؤهم غائبة عن سجل الشكر والاعتراف.

إن الكتابة عن هؤلاء ليست مجرد وفاء شخصي أو حنين عابر بل واجب تاريخي وأخلاقي فهم من وضعوا اللبنات الأولى للتعليم في زمنٍ لم تكن فيه المواصلات ميسرة ولا الوسائل متاحة ومع ذلك حملوا رسالتهم بجد وإخلاص، ومن بين هؤلاء يسطع اسم المعلم إبراهيم سلمان آل أسعيد، الذي عاش حياته بين الكتاب والطلاب وبقي أثره ممتداً في النفوس حتى اليوم.

الجذور والنشأة

وُلد المعلم إبراهيم سلمان علي آل اسعيد في بلدة القديح سنة 1364 هـ، ونشأ في كنف والدين كريمين غرسا فيه حب الأخلاق والعلم، كان الأصغر بين أربعة من الإخوة وأربع من الأخوات، ليكبر في بيئة عامرة بالمودة والتربية الحسنة ساعده والده الحاج سلمان بتشجيعه الدائم على طلب العلم فيما زرعت والدته في قلبه حب القرآن والمداومة على الدراسة.

ينتمي آل اسعيد إلى عائلة تمتد جذورها من العوامية إلى صفوى، ولها قرابة واسعة في البصرة - العراق، حيث ما زالت اللقاءات العائلية تجمعهم سنوياً وقد عُرف عن بعض إخوته حمل اسم ”انصيف“ وهي تسمية دارجة قديمة مرتبطة بمعنى التوائم وتشابههم.

البدايات التعليمية

بدأ المعلم إبراهيم مسيرته التعليمية في الكتاتيب عند الخطيب الحسيني مهدي الدرويش ليتعلم تلاوة القرآن، ثم تلقى أساسيات اللغة العربية على يد والدنا الخطيب الحسيني محمد علي آل ناصر.

وحين افتُتحت مدرسة سلمان الفارسي بالقديح وكان والده مسافراً للعراق أخذه أخوه الحاج علي إلى المدرسة ليكون ضمن المجموعة الأولى من الرواد ومن الذين شاركوه مقاعد الدراسة آنذاك الأساتذة: علي الغزوي، جعفر المرهون، عيسى الرهون، عبد الكريم الحليلي، السيد حسن أبو الرحي، عبد الهادي الزين، وغيرهم من شباب البلدة، وكلهم تجاوزوا الصف الأول مباشرة لكونهم يجيدون القراءة والكتابة.

تلقى علومه الابتدائية على أيدي الأستاذ حسني الجرار والأستاذ علي أفره، ثم خضع مع زملائه لاختبار التخرج في مدرسة زين العابدين بالدبابية - القطيف وبعد نجاحه التحق بمعهد المعلمين بالدمام مع رفاقه حيث درس ثلاث سنوات متواصلة حتى التخرج.

مشواره في التعليم

عُيّن بعد تخرجه في منطقة الصمان بمدرسة ابتدائية تغيّر اسمها لاحقاً من ”جرارة“ إلى ”الرفيعة“ بأمر ملكي، وعلى الرغم من وعورة الطريق وقلة المواصلات إذ لم يكن يُنقل إلا مع البريد والشحن من الدمام إلى القرى النائية فقد صبر سنتين حتى استقر في مهنته.

انتقل بعد ذلك إلى العوامية حيث عمل في مدرسة الواحة الابتدائية مراقباً للطلاب ثم أكمل دراسته في مركز المعلمين بالرياض تدرج في المناصب حتى أصبح وكيلاً في مدرسة قرطبة بالعوامية، ليعود بعدها مدرساً في مدرسته الأولى سلمان الفارسي ثم نُقل إلى مدرسة نعيم بن مسعود الابتدائية التي ختم فيها مشواره المهني.

تقاعد سنة 1424 هـ بعد أكثر من أربعة عقود في خدمة التعليم ليُكرَّم في حفل رسمي بحضور مدير المدرسة آنذاك الأستاذ أحمد سعيد الغانم اعترافاً بدوره الرائد كأحد أعمدة الجيل الأول من المعلمين في المنطقة.

شخصيته وحياته الاجتماعية

عُرف المعلم إبراهيم بالصرامة الممزوجة بالطيبة فلا يترك أبناءه وطلابه بحاجة إلى توجيه أو رعاية، وفي بيته جمع أسرته الكبيرة على مائدة غداء كل جمعة وعشاء كل ليلة سبت في عادة لم تنقطع على مدى السنين، أما طلابه فما زالوا يلتفون حوله بالتحية والتقدير أينما التقوه ينادونه بـ ”أستاذنا ومعلمنا“.

تزوج من الحاجة معصومة بنت أحمد رضي الجنبي وأنجب تسعة من الأبناء «علي، محمد، حسين» وستاً من البنات، فكوّن أسرة كبيرة امتدت جذورها في المجتمع، وكان شغوفاً بهواية صيد الأسماك «الحداق» ومحباً للسفر وزيارة مراقد الأئمة الأطهار.

الحضور الديني والثقافي

لم يكن المعلم بعيداً عن محيطه الاجتماعي والديني فقد كان دائم الحضور في مسجد الإمام علي وفي الحسينيات، وشهد كارثة تفجير مسجد القديح المؤلمة وهو من ضمن المصلين إلا أن لطفف الله لم يصبه مكروه، كما اعتاد حضور مجالس أصدقائه من الخيّرين حيث كانت النقاشات تدور حول الثقافة وشؤون المجتمع بما يخدم مصلحة البلد ويقوّي أواصره.

لا تنتهي الحكاية

بهذه السيرة يظل المعلم إبراهيم سلمان آل اسعيد واحداً من أعلام التعليم في القديح والعوامية خاصة والمملكة عامة، رجلٌ جمع بين رسالة العلم وأصالة الانتماء وبين صرامة المربي وحنان الأب ليترك أثراً ممتداً في ذاكرة طلابه وعائلته ومجتمعه.