السُّؤال المعرِفي.. أُحجِية النُّهوض العَربي «3»
لماذا تسقطُ الأجسَام؟ ما الذِي يُبقي القمرَ معلقاً؟ أينَ يذهبُ فائضُ الطَّاقة؟ لماذا يطفُو القارِب؟ كيفَ تُؤثِّر الموسِيقَى؟ ماذا يحصَل للإنسَان المُصاب بالهلَع؟ ما الذِي يتغيَّر داخِلَه حِين يستمِع للتَّواشيح والتَّرانيم الدِّينية؟ هل تُشفى أمراضُ النَّفس مِثلما تُشفى أمراضُ الجسَد؟ أسئِلةٌ لا تتوقَّف وفي مُختلف التخصُّصات، إذ كلَّما طُرِح تساؤلٌ وتمَّت الإجَابة عليه تمَّ الانتِقَال إلى آخر، حتَّى تتكوَّن المعرِفة وتتعمَّق وتكبُر، ومعَها تكبُر الحضَارة وتتَّسع ويَزداد تأثيرُها، وهوَ أمرٌ ثابتٌ فيما يخصُّ الحضَارة الإنسانيَّة، التِي تُساهم الأُمم والشُّعوب في تطوُّرها والارتِقَاء بها، بما فيها الأُمم والشُّعوب التِي يُظنُّ أنَّها مُتوحِّشةٌ ومُتخلِّفة.
الحضارةُ ليسَت خاصَّة بأمَّة أو شَعب، فهيَ مُشترَكٌ إنسَاني قائِم على التَّعاون والتَّفاعل، يستفِيد منها كلٌّ بحسَب إمكَانيَّاته وقُدراته ورغبَاته، فمنهم من استَلهم نَماذِجها ومُنجزَاتها، ومنهم من أخذَ بجانِبها العقلِي، ومنهم من تركَها ولم ينظُر إلا لجانِبها الإبداعِي، فالعَلاقة ليسَت ثابِتةً إنَّما مُتغيِّرةٌ مُتبدِّلةٌ باعتِبَار الثَّقافة والزَّمان والمكَان والمؤثِّرات، إذ الحضَارة تُهيمن عليها وتَقودها الأُمم الأقوَى عسكريًّا ومعرفيًّا، حِينما يبسُط العسكَري نفُوذه ويُسيطر بما يمتلِك من معرفةٍ وتقدُّمٍ عِلمي وتِقني، وهذان هُما شَرطاها وسببَا استِمرارها ودوامِها.
القبولُ بالحضارةِ والانضمامُ إليها منوطٌ بتحقِيقها الإجابةَ على أسئلةِ البشرِ، التِي تبدُو في ظاهرِها سَهلة الإجَابة والتَّعليل، بينَما هيَ صعبةٌ وتحتَاج إلى إثبَات؛ لإقناعِ السَّائل بأنَّ الجَواب الذِي حصَل عليه صحيحٌ وكَامل، أو لا أقلَّ جوابٌ مقبولٌ ومُستسَاغ، كَما في تساؤُل: هل الأرضُ كرويَّة أم مُسطَّحة؟ إذ استمرَّت الإجَابة لقُرون أنَّها مُسطَّحة، ثمَّ أتَت النَّهضة العِلميَّة وأثبتَت كُرويَّتها؛ ما تسبَّب في زعزَعة الثَّوابت والقَناعات وأدَّى إلى تغييرِها، فتمَّت إعادَة طَرح التَّساؤُلات حَول الأُمور الغامِضة؛ كَالمطر وتعاقُب الفصُول وحدُوث الكَوارث وشرُوق الشَّمس وغرُوبها وسقُوط الأجسَام وطَفوِها.
الأسئلةُ الغامضةُ أو التِي يُظنُّ أنَّها غامضةٌ هيَ التِي قادَت البشريَّة منذُ فجرِها، فحِينما لم يكُن الإنسَان يمتلكُ المعرِفة لجأَ لتفسِير الظَّواهر الطبيعيَّة، حَيث اعتقَد بوجُود آلهةٍ متعدِّدةٍ تحكُم الكَون، إذ ثمَّة آلهةٌ للمَطر وأُخرى للبَحر وثالثةٌ للمَوت ورابعةٌ للحُب، وتستمرُّ الآلهةُ باستِمرار غمُوض المعرِفة وتتكَاثر بتكاثُر أجزائِها وفروعِها؛ ما أدَّى إلى أن يُصبح لكلِّ فرعٍ إلهٌ خاصٌّ به، فإلهُ النَّماء والخَصب يختلِف عن إلهِ الفنِّ والأدَب، وإلهُ الجمَال يختلِف عن إلهِ الرَّعد، وهكَذا تشكَّلت عوائِل الآلهة، التِي مهمَّتها إدارةُ العَالم والمحافَظة على توازُنه.
اختلافُ الآلهةِ وتنوُّعها واختِصاصُها بكلِّ شيءٍ؛ دفعَ إلى الإيمانِ بقُدرتها على التَّأثير، وإعطاءِ إجابةٍ على جَميع الأسئِلة، وهوَ ما ستنكَشِف هشَاشتُه معَ تطوُّر الحضَارة واتِّساع المعرِفة، التِي استَطاعت تقدِيم إجاباتٍ لما يُعتقد أنَّها أسئلةٌ غامضةٌ ومن اختِصاص الآلهة؛ كَأسئلة الهندسَة والحِساب والمعارِف العقليَّة، حَيث هيَ أسئِلةٌ يُمكن إدراكُها والإجَابة عنها بالتَّفكير والتَّأمل والتَّجريب والقِياس، إلى أن غدَت الإجَابات من البديهيَّات ولا تحتاجُ لتعليلٍ وإقنَاع، فهُنا شعَر الإنسَان بعجزِ الآلهة وعدَم قُدرتها؛ لذا لجأَ إلى الاستِقلال عنها، ولم تبقَ أمامَه إلا الظَّواهر الكونيَّة؛ كَسقوط الأمطَار وتتابُع الفصُول، وكسُوف الشَّمس وخسُوف القَمر، والمدِّ والجَزر والرِّيح، إذ مثَّلت لغزاً غامضاً عجِز عن تعليلِه وفهمِه، وهذَا ما سيتجاوزُه أيضاً معَ التقدُّم العِلمي والمعرِفي.
البحثُ عن الأسبابِ هوَ أوَّل الطَّريق إلى المعرِفة، فطفولةُ العقلِ أنتجَت التَّساؤلات الأُولى، وعن طريقِها تمَّ تقسِيم المعارِف إلى طبيعيَّات وماورائِيَّات «ما وراءَ الطَّبيعة أو المِيتَافيزِيقيا»، حَيث الطبيعيَّات تُعلِّل نفسَها بنفسِها ولا تحتاجُ لتفسيراتٍ غيبيَّة، بينَما الماورائِيَّات لا تستَطِيع تعلِيل نفسِها وبحاجةٍ للغيبيَّات؛ بسبَب قصُور المعرِفة وعدَم وصُول العَقل البشرِي مرحلَة النُّضج، وهذَا ما قَاد لأن تتكوَّن التَّساؤلات وتتكَاثر، وتنتهِي ببحثِ الإنسَان بنفسِه عن الإجَابات.
محاولةُ الإجابةِ على الأسئلةِ المتناثرةِ والمتنوِّعة هيَ ما يصنعُ الحضَارة ويقُود البشريَّة، فكلَّما تعمَّقت الأسئِلة وازدادَت تعقِيداً؛ ارتقَت الحضَارة وبلغَت البشريَّة مرتبةً أعلَى، وهذَا قانونٌ حتميٌّ موجودٌ مُنذ فَجر الإنسَان، حِينما لم يكُن لَديه سِوى النَّار وبَعض المعارِف القلِيلَة، التِي يُحاول بعقلِه وذكائِه توظِيفها في إجَابة أسئِلةٍ طارئةٍ على ذِهنه أو وَارِدةٍ عليه من الآخرِين؛ لهذَا لم يتخصَّص بدِراسة إحدَى المعارِف، إنَّما تعلَّمها ككُتلةٍ واحِدة، فدرَس الهندسَة والحِساب والطَّبيعة والأَخلاق والفَلسفة واللغَة والتَّاريخ والدِّين، حتَّى غدَا عالماً فيها، توجَّه إليه الأسئِلة حَول غوامِضها وتفاصِيلها، وهذَا الأمرُ ليسَ مقتصِراً على زمنٍ محدَّدٍ أو مكانٍ معيَّن، إذ اشتركَت فيه مُختلَف الأُمم بنِسَبٍ مُتفاوِتة.
النسبيَّة والتَّفاوت من سِمات الأُمم، فهيَ طريقةٌ من طرُق مشاركتِها في الحضَارة، ولا تستطِيع أمَّة بمفردِها قِيادة البشريَّة إلا بالاستِعانة ببقيَّة الأُمم، والاتِّكاء على مُنجزاتِها وما يقدِّمه أبناؤُها من إسهَامات، وهوَ ما يُمكن رُؤيته بوضُوح في الحضَارة العربيَّة الإسلاميَّة، التِي عمِلت على صَهر المعارِف السَّابقة، وتكييفِها معَ الدِّيانة الإسلاميَّة، حَيث أبعدَت ما جَاء فيها من مِيثُولُوجِيا وخُرافة، وانتهجَت لأَجل ذلِك المناهِج العلميَّة والمقاربَات المنطقيَّة، معَ اعتمادٍ على النَّص الدِّيني المقدَّس، الذِي باتَ نصًّا مُؤسِّساً ومركزيًّا، اِلتفَّت المعارِف حَوله لخدمتِه وشَرح ما وَرد فيه، فبَرز عُلماء متخصِّصون في الشَّأن الدِّيني، وأيضاً على دِرَايةٍ كبيرةٍ بالأمُور الدنيويَّة والمعاشيَّة.
الخلطُ بينَ الدِّيني والدُّنيوي أمرٌ مألوفٌ في الحضاراتِ السَّابقة، فاليونانيُّون شاركُوا معارِفهم معَ آلهتِهم، بل صرَّحوا أنَّها مَصدر إلهامِهم، والمصريُّون عادُوا بذاكرتِهم إلى معابدِهم حَيث الكَهنة احتكَروا المعرِفة، وهكَذا لدَى الفُرس الذِين مجَّدوا النَّار ونظرُوا في النُّجوم ومارسُوا طقُوس دِيانتهم بجُوار ممارستِهم العلميَّة، والرُّومان الذِين استَلهموا النَّموذج اليُّوناني واتَّبعوا طريقتَه، والهنُود الذِين أدارُوا حياتِهم بناءً على تعدُّد آلهتِهم وتنوُّعها، وكَذلِك العَرب لم يختلِفوا عن الأُمم التِي سبقَتهم، إذ سارُوا على طريقتِهم ونهجِهم، وهوَ ما يُمكن تعلِيلُه بحضُور الدِّين في جَميع شُؤون حيَاتهم.
تأثيرُ الدِّيانة على الحضَارة هامٌّ على مُستوى طرحِ الأسئِلة والبَحث عن الإجَابات، حيثُ النصُّ الدِّيني المقدَّس هوَ النصُّ الذِي تدورُ حَوله وترتبطُ به جَميع الأسئِلة، فالاهتِمَام بالفَلك لأجلِ معرِفة مَنازِل القَمر وأوقَات المناسبَات الدِّينية كالصِّيام والحجِّ والصَّلاة، والاهتِمَام بالهندسَة لأجلِ بِناء دُور العِبادة وما فيها من قبابٍ وأعمدةٍ وزخارِف ونوافِذ، والاهتِمَام بالتَّاريخ لتسجِيل الأحدَاث المرتبِطَة بالدِّين والدَّولة والمجتمَع، وهكَذا معَ بقيَّة العُلوم التِي ارتبطَت بالقُرآن وأقامَت معَه عَلاقاتٍ وثِيقَة؛ كعُلوم اللغَة والبَلاغة والأدَب، ومِثلها عُلوم السِّياسة والرِّياسة والسُّلطان، إذ جميعُها تنتمِي إلى كيفيَّة مُمارسَة الحيَاة بصِيغة دينيَّة تكُون هيَ المركَز والأسَاس.
استمرَّ التَّأثير الدِّيني عبرَ مراحلِ الحضَارة الإسلاميَّة، فارتبطَ الأُخروي بالدُّنيوي أو العُلوم التطبيقيَّة بالعُلوم الشرعيَّة، وهوَ ما يمكنُ رؤيتُه في أبرزِ علمائِها، كَابنِ سِينا الطَّبيب والفَيلسوف والفَلكي والشَّاعر والرِّياضي، وابنِ الهيثَم عالمُ البَصريَّات والهندسَة والفَلسفة وطبِّ العيُون، والفَارابي الفَيلسوف والمُوسِيقِي والأخلاقِي والطَّبيب، والخَوارزمِي عالمُ الرياضيَّات والحِساب والجُغرافيا والفَلك؛ ممَّن قدَّم خدماتٍ للبشريَّة، ساهمَت في الإجَابة على كَثيرٍ من الأسئِلة الصَّعبة والغامِضة، كَما أنتجَت العدِيد من الأسئِلة المُرتبِطة بعصرِها، وهيَ ما ستتمُّ الإجَابة عليها في الحضَارة الأوروبيَّة، التِي تُعتبر ورِيثة الحضَارة الإسلاميَّة والحضَارات التِي قبلَها.
استمرَّ ارتباطُ الأُخروي بالدُّنيوي معَ انتقالِ مركزِ الحضَارة من الشَّرق إلى الغَرب، فأُوروبا انطلقَت نهضتُها من أحضَان الكَنيسة، حَيث أَخذ قساوِستها ورُهبانها في تعلُّم العربيَّة والاستِفَادة من عُلومها، ثمَّ اتَّجهوا إلى ترجَمة كلِّ ما وقَع تَحت أيدِيهم من عُلوم ومعارِف العَرب والمسلمِين، فحدَثت عمليَّات تأثُّر بالثَّقافة والأَدب والدِّيانة والمنهجيِّة وكلِّ ما اتَّصل بشُؤون الحضَارة، وشواهِدها اتَّضحت في اللبَاس والسُّلوك والعَمارة والتِّقنية، ثمَّ إنَّها تعمَّقت أكثَر وأثَّرت على تفكِير الرُّهبان أنفسِهم ورغبتِهم في مُشابهة عُلوم القُرآن، فجَاء تُوما الأَكويني وافتَتح عهداً جديداً معَ الكَنيسة، نابذاً انغلاقَها وتراجُعها ومترجماً التَّفاعُل معَ الحضَارة إلى دُروسٍ ومواعِظ وعِبَرٍ دينيَّة أو تتَّصل بالدِّين.
تواصلَ التَّفاعلُ وانتشرَت التَّرجماتُ من العربيَّة إلى الإيطاليَّة، ثمَّ إلى بقيَّة اللغاتِ الأُوروبيَّة، حيثُ بدأَت النَّهضة وعمَّت أرجاءَ أُوروبا، ومن خِلالها أخذَت تدخُل في الحضَارة وتؤثِّر على مسَارها، فحدَث تلاقُحٌ فِكري ما بينَ الحضَارتين، امتدَّ إلى ما عُرِف بعَصر الأَنوار؛ حِين بلغَت سُلطة الكَنيسة أوجَها، مُترافِقةً معَ مرحَلة التَّوسعات والفتُوحات باتِّجاه البُلدان الواقِعة خَارج قارَّتها، ومن أجلِ أن تُحافظ الكَنيسة على كيَانها وتَعاليمها؛ اتَّهمت جَميع الآراء الجدِيدَة وغَير المألُوفة بالبُطلان والكُفر، وعقدَت مُحاكَماتٌ واستِتَابات للعُلماء، كَحال جَاليلُو الذِي أقرَّ مُكرَهاً بخَطأ نظريَّاته وحِسَاباته الفلكيَّة، المتعلِّقة بكُون الأَرض تتَبع الشَّمس وتدُور حَولها، مناقِضاً الرَّأي المشهُور آنذاك بأنَّ الأَرض مركَز الكَون والشَّمس والكَواكب تدُور حَولها.
كثُرت النظريَّات العلميَّة المناقِضةُ للمعارفِ الكنسيَّة، التِي رأَت في مَقُولاتِ وآراءِ أرسطُو وأفلاطُون وبقيَّة عُلماء الإغرِيق نظريَّاتٍ راسِخةً لا يجُوز المسَاس بها، لهذَا حِينما تمَّ إثبَات بُطلانها؛ حصلَت رُدود أفعالٍ تِجاه سُلطة الكَنيسة المُمسِكة بزِمام الأُخروي والدُّنيوي، حَيث أَخذ النَّاس يتساءَلون عن صِدقها وصحَّة ادِّعاءَاتها، وهوَ ما واجهَته بكثيرٍ من الشَّراسة والعُنف، إذ أقرَّت العقُوبات القاسِية بحقِّ العُلماء الخارجِين على سُلطتها، ومعَ تصاعُد المواجَهة ومُرافقَتها لأوضاعٍ اقتصاديَّةٍ ومعاشيَّةٍ سيِّئة؛ اندلعَت المواجَهة بَين الكَنيسة والنَّاس، وانتهَت بفَصل الأُخروي عن الدُّنيوي، ففُتحَت صَفحةٌ جديدةٌ في التَّاريخ؛ تمجِّد العِلم والبُرهان وتبتعِد عن الخُرافة والغَيب؛ ما يعنِي الابتِعَاد عن الدِّين وما اتَّصل به من الأُمور الروحانيَّة والسلوكيَّة والأخلاقيَّة والعرفانيَّة.
أبرزُ علماءِ عصرِ النَّهضة كَانوا موسوعيِّين، مارسُوا العِلم التَّطبيقي إلى جانِب الفَلسفة واللاهُوت والتَّاريخ والمنَهج والمنطِق واللغَة، كَما هوَ حَال دِيكَارت ونِيوتن وبيكُون وجَالِيلُو، الذِين تركُوا كتاباتٍ متعدِّدة المجَالات وإن كَان تأثيرُهم الأَكبر تمثَّل في اختصاصِهم العِلمي الدَّقيق، الذِي عُرِفوا به في أزمانِهم وضِمن مُجتمَعاتهم، وهوَ ما فتَح البَاب أَمام تقسِيم العُلوم والمعارِف معَ ازدِيَاد اتِّساعها وتنوُّعها، إذ لم تعُد محصُورةً في بَعض النظريَّات القلِيلَة كَما في الماضِي، فجاءَت عُلوم الفِيزياء والكيميَاء والأحيَاء والإنسَان والأَرض والرياضيِّات، ثمَّ تمَّت تجزِئتها ليُضاف لكلِّ علمٍ عددٌ من الأقسَام تُمثِّل فُروعه المختلِفة، كعِلم الأحيَاء المُشتمِل على الأحيَاء الدَّقيقة وغَير الدَّقيقة، وعلى الأحيَاء الحيوانيَّة والنباتيَّة والمائيَّة، وتَحت كلِّ قسمٍ اندرجَت العدِيد من الأنوَاع والممالِك.
تشعَّبت العلومُ وتوسَّعت وباتَ من الصَّعب دراستُها ضمنَ إطارٍ جامِع، فاتَّخذت المعاهِد والجامِعَات طرِيق التخصُّص في فرعٍ واحدٍ، مبتعدةً عن المزجِ بَين المعاِرف التطبيقيَّة والنظريَّة، فما كَان منها متخصِّصاً في العُلوم الإنسانيَّة أو الإداريَّة أو القانونيَّة، ابتعدَ عن المتخصِّصة في الهندسَة والطِّب والعُلوم، حتَّى أصبَح العَصر عَصر الانقِسَام والتخصُّص، وهيَ سِمة الحضَارة الغربيَّة وأبرَز مُنجزَاتها؛ إذ عمِلَت على الاهتِمَام بشكلٍ منفصلٍ بكلِّ جانبٍ من جوانِب المعرِفة، متَّبعةً المنهجيَّة العلميَّة الصَّارمة التِي تقُوم على الدَّليل والبُرهان؛ ما يعنِي تكرِيس الفَصل بَين الأُخروي والدُّنيوي، خِلافاً للحضَارات السَّابقة.
الحضارةُ صَنِيعةٌ مُشتركَةٌ بينَ جميعِ البَشر، يُساهمون فيها بقدرِ ما يستطِيعُون، وما انتقالُها من أمَّة إلى أُخرى إلا دلِيل حيويِّتها وأهميَّتها؛ فهيَ تمدُّ أصحَاب الأسئِلة بما يحتاجُون إليه من إجَابات، حتَّى إذا تكَاثرت وملأَت الرُّفوف والعُقول؛ انتقلَت إلى طَورٍ جديدٍ تَمثَّل في طَور المعرِفة المتخصِّصة، الباحِثة عن أعقَد وأعمَق الأسئِلة؛ لتنقسِم المعارِف وتتجزَّأ ويحدُث الانفِجَار المعرِفي المعلُوماتي، الذِي أدَّى إلى أن تغدُو التخصُّصيَّة المنهجيَّة أَبرز شُروط الحضَارة وأهمَّ سِماتها، وباتَ على الرَّاغبين في الانضِمَام إليها تحقِيق شرطِها، والاكتِفَاء بإجَابة أسئِلة فرعٍ واحدٍ من فُروع المعرِفة.