آخر تحديث: 12 / 12 / 2024م - 6:47 م

ملا محمد الوحيد مدون الراحلين يرحل

عبد العظيم شلي

وجاء الخبر الحزين فجر يوم الأربعاء برحيل الخطيب الحسيني ملا أحمد حسن ابراهيم علي الوحيد، المعروف عند العامة بـ «ملا محمد اوحيد»، حقيقة خبر مؤلم لأبناء المجتمع كافة، فهو أحد أعلام المنبر القدماء البارزين على نطاق كبير، تعدى جغرافية بلدته جزيرة تاروت وقرى وبلدات القطيف واصلا للكويت وبلاد هجر، حيث كان حضوره طاغيا، مرغوبا محبوبا من أبناء الأحساء، ولا أدل على ذلك تواجده السنوي، لا سيما في شهر محرم فمنذ عام 1387 إلى سنة 1441 هجرية أي قرابة 55 عاماً، وهو يصدح بصوته الجهوري لأهالي قرى الأحساء الساكنين وسط غابات النخيل ورياض البساتين الغناء حيث الطيبة اللآمتناهية بكل من يشنف أسماعهم في حب الحسين والبكاء على مصابه، فكيف والحال من يمتلك ناصية المنبر بتقليديته التراثية وكلاسيكيته الفذة قوامه الإرث المحمل بعبق الماضي السحيق من تراكمات المنبر وصعود ذرواته في مواطن النواح وعبر قرائح خطباء عظام محليين مشى على نهجهم، وتعلم من أسلوبهم، بدء بالملا عبدالله المبشر والأثر المبكر على يد الشيخ علي ابراهيم آآل عبدالخالق لبعض الوقت والدور الأكبر على يد ملا خليل أبوزيد رحمه الله، هذا الخطيب خرج من تحت عباءته أشهر خطباء المنبر في تاروت منذ نهاية الستينيات الميلادية، وجلهم فاقدي البصر إلا القليل منهم، كانوا خطباء مميزين لا يشبه بعضهم بعضا في طريقة الإلقاء، فكل له لونه الخاص وجرسه العذب في جر الونّات، وحتى في إلقاء القصيد، يتفاوتون في نقل أسلوب الحديث كل حسب مقدرته وسعة اطلاعه، ولعمري بأن الملا محمد الوحيد ذو سعة معرفية مواكبة للزمن بمقدار كبير يشكر عليه كثيرا، وهذا انعكس على الكثير من قراءته، لو سُجِّلت كلها لظفرنا بمحتوى قيم من الزاد المعرفي التاريخي، ولا سيما مرويات أهل البيت قوامه الشعر في تلويناته الشجنية وتجلياته العذبة من الشعبي للفصيح.

ثمة تسجيل فيديو للملا الوحيد أجرته صحيفة جهينة «جهات» قبل أربع سنوات يتحدث فيه عن أهم محطات حياته، سيرة مختصرة بكلام موجز، يوضح فيه بدايات تعلمه في سنوات تكوينه الأولى بداية عند المعلم عبدالكريم الطويل الذي خرج أجيالا من المتعلمين، ثم التحق عند المعلم محمود درويش وأكمل تعلم وحفظ القرآن كاملا مجودا، وهو ابن الثالثة عشر، ثم ارتحل عام 1387 للنجف الأشرف، ودرس اللغة العربية على يد الشيخ حسين فرج العمران ثم أخذ الفقه على يد الشيخ منصور البيات.

يستخرج المشاهد والسامع مدى الروح الوثابة والطموح الكامن عند ملا محمد، والأروع، حين يدلك الخطباء الكبار الأمينين، في نقل من كان لهم الفضل في حياته ومن هم المؤثرون في تكوين شخصيتهم المنبرية، تسمع السرد، وتعجب من توالي الأسماء التي شكلت مسارهم الطموح إلى غاية امتلاكهم أساسيات وقواعد التهيئة ليكون بعد ذلك صنديد يقف بكل احترافية على صهوة المنبر، جامحا في عوالم مدرسة أهل البيت والنهل من أفكارهم النيرة، والتأسي بمصائبهم عند الملمات والأحزان.

ثمة نقطة أشار إليها الخطيب محمد بأنه فقد بصره حين كان ابن الخامسة، وهذه المعلومة ليست جديدة بالنسبة إلى كاتب السطور، فقد سمعتها منه شخصيا منذ 38 عاما حين زاملنا لمدة عام ونيف أو سنتين في مدرسة الإمام مسلم الابتدائية بسنابس، حين وُزع خريجو معهد النور على المدارس، وأسند للبعض منهم تدريس مادة القرآن الكريم أو اللغة العربية، لكن ملا محمد الوحيد الأستاذ كان استثناء حيث آآثر مدير المدرسة الأستاذ عبدالله يوسف ألا يجهد ملا محد الوحيد بعدم تكليفه بأي مادة، لا تدريس القرآن، ولا لغة عربية، نظرة المدير كانت نظرة تقدير واحترام لشخصية الملا ومكانته المرموقة في المجتمع، يأتي للمدرسة يوقع، ويقضي ساعة أو ساعتين أكثر في حوارات مفتوحة زادها الفكر والثقافة ثم ينصرف عنا. خلال هذه الساعات كم تبادلنا مع شخصه الكريم أحاديث جمة عن العلم وعوالم المنبر وظرائف الكلام، عرفته عن قرب أكثر من أي خطيب آخر، وما أن تصير عنده مناسبة سعيدة إلا، ويعزم جميع معلمي المدرسة في بيته الكائن بحي الوقف بتاروت، شخص مولع بسماع الأدب من كل حدب وصوب، حرص قاده على متابعة كل حلقات برنامج «قول على قول» المختص بأشعار العرب القدماء الذي تبثه إذاعة لندن مساء في وقت متأخر من الليل للعالم اللغوي والأديب حسن الكرمي.

وما أدل على الحزن الذي مُلِئَ قلبه منذ لحظة فقدانه بصره، وهو ابن الخامسة، وعند تباريح الصبا كانت تبكيه نائحة فريد عبر المذياع المنبعث من مقاهي سوق تاروت، ”عدت يا يوم مولدي عدت يا أيها الشقي، الصبا ضاع من يدي، وغزا الشيب مفرقي، ليت يا يوم مولدي كنت يوما بلا غد، ليت أني من الأزل لم أعش هذه الحياة، عشت فيها، ولم أزل جاهلا أنها حياة، ليت أني من الأزل، كنت روحا، ولم أزل، أنا عمر بلا شباب وحياة بلا ربيع...“

كانت تلك الكلمات يعيها لنفسه يشكي فقدان بصره، وهي نعمة لا يعرف قيمتها إلا من فقدها، وهو لم يزل يافعا، حقيقة لم تكن حياته بلا ربيع، بل حياة مزهرة بالكفاح والإصرار وتجاوز لكل العثرات والعقبات، عوضه الله ببصيرة نيرة وبعزيمة لا تلين فقد شق دربه بتؤدة ورباطة جأش محملة بروح المداعبة، وحس الظرافة بالرغم المصاعب عند أب مكافح بين الزرع والبحر، وأخوة بررة أمدوه بالمطالعات وغيرهم ملازمين له، واكتسبوا منه حب الحرف واحترام العلم، وأيضا غرس فيهم خدمة المجتمع.

ملا محمد الوحيد يتمتع بذاكرة فولاذية حتى لو غبت عنه سنينا مجرد أن تصافحه يعرفك مباشرة لا ينسى الأصوات، ويعرف أيضا أعمار المعمرين الذين على قيد الحياة ”أباك بلغ المئة وعمك الثمانين حولا وعمتك تجاوزت ذلك“.

ولديه شعف بتجميع وعرض الساعات الجدارية القديمة التي تزين مجلسه، تقليد اكتسبه من ملا الحاج عبدالله المبشر أحد الخطباء العريقين في تاروت.

ملا محمد الوحيد العاكف منذ نحو خمسين عاما على رصد كل راحل في جزيرة تاروت، سبب وفاته ومن هم أقاربه ومن صلى عليه ومن لقنه ومن قرأ فاتحته وأين أقيمت، حتى وصل ما دونه مجلدات عديدة، متى ترى النور حتى تطبع فهي مرجع أنثربولوجي لشخصيات مؤثرة وجزء منها معروف عند كافة الناس وأخرى منسية كلهم غابوا عن الأذهان بفعل تراكم العقود وتعاقب السنين برحيل أجيال وأجيال، وكما يقال الذاكرة خوانة، لكن بفعل توثيق الراحلين من لدن الخطيب الحسيني ملا محمد الوحيد، الذي كلف من يؤنسه في مجلسه العامر بكتابة كل راحل والترحم عليهم فقد حفظ سيرة شخصيات عديدة من نساء ورجال أبقاها حاضرة مدونة في القرطاس، من يطلع عليه سوف يصاب بالدهشة لهذه الروح الوثابة بأن يسجل في اليوم والساعة والدقيقة من رحل، وكأن ملا محمد الوحيد يقتفي أثر الراحلين بأنهم لن يغيبوا، أراد أن يبقيهم أحياء في ذاكرة الناس.

يا صاحب فكرة التدوين الذي سبق عصره من يكمل مسيرة التدوين من بعدك من يتولى هذه المهمة الدقيقة، وعلى الأخص من بنيك أو أحفادك، هل يأخذون الراية بتوثيق الراحلين على نهج أبيهم؟ حفاظا على إرثه القيم.

يا موثق سير من ارتحلوا من أحبابنا وأقاربنا وأعزائنا وكافة مجتمعنا صغيرهم وكبيرهم نساؤهم ورجالهم، جاءت اللحظة التي يتوقف فيها قلمك عن التدوين، وتتوقف مهجتك عن البكاء على مصاب الحسين، اليوم نبكيك يا من أبكيتنا عقودا وعقودا واليوم ندون رحيلك!

نم قرير العين يا أبا ياسر فقد خدمت المنبر طوال 60 عاما وبضعة سنين، فالذاكرة لن تنساك أبدا، فقد تفتق وعينا على صوتك الجهوري طوال عقود وعقود فلم يزل رنين صوتك وأنينه يؤنسنا، نجر الوّنة في خريف العمر، فحياتك نبراس وسيرتك ربيع دائم نتعلم منها قيمة الكفاح في هذه الحياة، فحياتك يا خطيبنا نعم الحياة.