آخر تحديث: 6 / 10 / 2024م - 9:39 م

الدراما السعودية من الاستيراد إلى التصدير

الدكتور إحسان علي بوحليقة * صحيفة مال الاقتصادية

سوق الدراما العالمية ضخمة بكل المعايير فثمة تقديرات تصل بها إلى تريليون دولار سنوياً، ولن يكون بوسعنا الذهاب بعيداً لتحقيق نجاحات واختراقات مستدامة في هذه الصناعة إن لم نتناول قضية ارتقاء الدراما السعودية تناولاً اقتصادياً كذلك، ينطوي على شمولية وخطة تمتد لعدة سنوات، والمبرر لذلك أن النجاح أو الفشل ليس عبارة عن طلقة وتنقضي، بل العبرة بالقدرة على الاستدامة «بمعنى الاستمرارية وتواصل النجاحات»، ولن يتحقق ذلك إن لم يرتكز إلى نجاحات مالية، أي تنتج العمل الدرامي ويجلب إيرادات تفوق تكلفته. وهذا بالتأكيد يتطلب تموضعاً واضحاً ومُمَكناً حتى نحدث اختراقات تجعل الإنتاج الدرامي السعودي يحظى بانتشار تفرضهُ جودة المحتوى شكلاً وموضوعاً. ولا يمكن تجاوز أننا نتحدث عن سوق عالمية للدراما تزداد عمقاً وتوسعاً نتيجة لتعدد القنوات والوسائل؛ فما كان تقليدياً يسمى“مسلسلات تلفزيونية”لم يعد كذلك، فأنت أمام صيغ متعددة لتسويق المنتج من خلال ليس فقط المحطات التلفزيونية بل الأهم المنصات بالاشتراك «“شاهد”مثلاً» ومنصات التدفق «“نيتفلكس”مثلاً».

نعود لحالة عملية نشاهد تتابع حلقاتها حالياً، فمسلسل“خيوط المعازيب”يبقى عملاً درامياً اكتسب تميزهُ من سردٍ غني بأحداثٍ تتوالى في سياق مشوق، واكتسبه من اهتمامهِ بالتفاصيل، وبذلك أثبت المسلسل أن بوسع الدراما ‎السعودية أن تكتسح إذا ما توفرت لها المُمكنات، ودفعها الشغف، ووجدت من يحتضن تجويد العمل الإبداعي لينقل رسالة رشيقة مقنعة.

هذا الاكتساح ضروري استمراره وتواتره لوضع الدراما السعودية في المقدمة خليجياً وعربياً وعالمياً. أما القدرة على الاكتساح فتتطلب توفر عناصر ليست متاحة لمن يريد، ومن تلك العناصر:

  • الارتكاز إلى مخزون ثقافي ثري، وقد نجح“خيوط المعازيب”في استجلاب خيوط من ذلك المخزون، أما ما جل ذلك المخزون فلم يبرح حتى الآن حبيس الأدراج وأسير النوستالجيا،
  • الرغبة الجادة في الاكتشاف والتنقيب عن المحتوى المحلي. ولم نفعل ذلك إلا مؤخراً بعد عقودٍ من الزهد بما لدينا، والاعتداد بما لدى الآخرين،
  • السعي الجاد والمتحفز للحفاظ على ما لدينا والاعتداد به، فقد مرت أوقات لم نكن نمانع في دفع الكثير لاستجلاب ما لدى الأخرين من دراما والتحلق حول التلفاز كل ضحوية وعشية لمتابعته، فأصبح ما نعرف عن“غيطان وترع”الصعيد أكثر مما نعرف عن عيوننا ونخيلنا وصحارينا وجبالنا وقصصنا وحكاياتنا! ليس ذلك فقط، بل لا أنسى كيف كانت الأهازيج التي تتغنى بها جداتنا عن جداتهم كنا نجدها تذاع في محطات مجاورة وكأن تراثنا غير المادي قد ترك مبذولاً للأخرين ليقتنوا ما يشاؤوا منه، ولعل نظرة خاطفة لما هو مسجل لدى اليونيسكو كافية للدلالة على ذلك، وتكفي لبيان أن أمامنا الكثير لفعله.
  • الحرص على أن يكون لنا بصمة إبداعية مؤثرة، وفي هذا المجال أتذكر كيف كان همنا ونحن يافعين أن تتاح لنا الفرصة لنشاهد فيلماً في سينما أرامكو وأفلامها المدبلجة التي زادت من رغبتنا تعلم لغة أجنبية وكأن لغتنا العربية لا تكفي، أضف لذلك الأفلام العربية من مصر والشام التي جعلتنا نجيد لهجات تلك الربوع العربية على تنوعها، فيما كنا نواري لهجتنا عن الأسماع، وكأن علينا الحفاظ عليها“كشفرة سرية”لا ينبغي الإفصاح عنها، فإذا ما تحدث بها أحد غيرنا تطايرت الأخبار بذلك وكأن ذاك من أعاجيب الأفعال! فضلاً، عن أنه تشكل لدينا انطباع عام أن من يمثل أ ويتعاطى عملاً درامياً ينبغي أن يكون قادماً من مكانٍ آخر، ليبقى دورنا أن نشاهد ما نستورده من أفلام ومسلسلات، دون أن نمتلك ما نصدره من دراما وإبداع، ليس من أجل استهلاكنا نحن فقط، بل كذلك لنحتفي أمام العالم بأسره بما لدينا وما تحتضنه أرضنا من ثروات إبداعية وموروث يستحق أن يُجسد، ولنحقق نظير ذلك إيراداتٍ وعوائد اقتصادية مجزية، وهذه ليست دعوة للانغلاق والانكباب على الذات، بل لأن نُصَدر كما نستورد لا أكثر.

وهكذا، يتضح أن القضية ليست“تمثيل في تمثيل”، بل تمثيل لإيصال رسالة للعالم من حولنا، والعمل وفق فلسفة تقول إنه كلما ازدادت رسالتنا اتقاناً وجودةً ازداد تأثيرها وارتفع مردودها على أكثر من صعيد، بما في ذلك المردود الاقتصادي المباشر وغير المباشرة. كما يتضح كذلك أن القصة لا تقتصر على ‎”خيوط المعازيب”فقط، رغم ما يعنيه هذا العمل الجاد لي على المستوى الشخصي «بحكم نشأتي في بيتٍ كانت صناعة وتجارة البشوت مصدر دخله، وانتمائي إلى عشيرةٍ تداخلت ولا تزال في نسيج هذه المهنة صناعةً وتجارةً بكل تفاصيلها وعلى امتداد حلقات سلسلة قيمتها كافة»، بل القصة هي نهضة الدراما السعودية، التي أثبت المسلسل مجدداً أنها قادرة على التحليق عالياً وبعيداً بما تمتلكه من عمق وامكانات.

ويبرز التحدي ألا يصبح المسلسل وكأنه“بيضة ديك”، بل لابد أن يصبح دافعاً لنجاحات متوالية لتنافس لكي تتصدر الدراما السعودية المشهد، وهذا يتطلب أكثر من نص محبوك ومن ممثلين مبدعين وميزانية إنتاج سخية.

كاتب ومستشار اقتصادي، رئيس مركز جواثا الاستشاري لتطوير الأعمال، عضو سابق في مجلس الشورى