آخر تحديث: 5 / 10 / 2024م - 10:01 م

في معنى النصر والهزيمة

يوسف مكي * صحيفة الخليج الإماراتية

في الحروب التقليدية، غالباً هناك منتصرون ومهزومون. يتقابل الجيشان فيكسب الحرب الجيش الأكثر رجالاً، وعدة، وعتاداً، وخبرة في صياغة الاستراتيجيات والتكتيك، وأحياناً تنتهي تلك الحروب من غير حسم، حين تتكافأ قوة المتحاربَين، لتتبعها جولات أخرى. حديثنا هذا ليس معنياً بهذا النوع من الحروب. إن الهدف من هذا الحديث هو تسليط الضوء على طبيعة معارك الاستقلال التي تدور بين الشعب المحتل وقوة الاحتلال. وهي حروب دارت رحاها ما بين الحربين العالميتين، وما أعقبهما. وكانت معارك الاستقلال الوطني في القارات الثلاث، آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، من أهم معالم القرن العشرين.

أول ما يلفت النظر في حروب التحرير هو عدم التكافؤ بين حركات التحرر الوطني وجيوش الاحتلال. فجيوش الاحتلال تملك تفوقاً، تقنياً ومادياً، في ميادين القتال يبز بكثير ما تمتلكه حركات التحرر. فعلى سبيل المثال، تبدو المقاربة بين قوة الجيش الفرنسي ورجال الثورة الجزائرية غير متكافئة، بمسافات شاسعة. فالجيش الفرنسي هو من أقوى جيوش العالم، عدة وتجهيزاً وخبرة، أما جيش الثورة الجزائرية فهو بالكاد شعب قبلي يتحصن بجبال الأوراس، ويحمل أسلحة خفيفة جداً، لا تقارن بأي شكل من الأشكال بقوة جيش الاحتلال. والحال هذا ينسحب على قوة الجيش الثوري الفيتنامي الذي واجه الفرنسيين في مراحله الأولى، ثم انتقل أثناء عهد الجنرال فان ثيو، إلى المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من أن حكومة الثورة الفيتنامية التي يقودها هوشي منه، التي تتخذ من مدينة هانوي عاصمة لها، قد حظيت بدعم عسكري وسياسي واسع من قبل الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، فإنه لا يضاهى بأي حال من الأحوال قوة الجيش الأمريكي. لقد زجت إدارة الرئيس الأمريكي، ليندن جونسون، بنصف مليون مقاتل في الحرب الفيتنامية. وحين انتهت تلك الحرب كانت خسائر الأمريكيين خمسين ألف جندي، وقرابة نصف مليون من الجرحى، في حين خسر الفيتناميون عشرين ضعفاً. لكن النصر في النهاية كان لمصلحة الفيتناميين.

هذا الواقع، له ما يماثله في جميع الثورات الوطنية التي أخذت مكانها في معظم دول العالم الثالث. خسائر البلدان المحتلة هي أضعاف أضعاف خسائر جيش الاحتلال، ومع ذلك فإن النصر في الأخير يكون لحركات التحرر. فماذا يعني ذلك؟

نساجل في هذا الحديث، أن نصر حركات التحرر الوطني هو نصر سياسي، وليس عسكرياً. إن هذه الحركات تدافع عن أرضها، ووجودها، واستقلالها، ومستقبلها، وهي لا تجد مفراً عن مواصلة القتال والكفاح حتى طرد الاحتلال، مهما كلف ذلك من تضحيات. أما جيش الاحتلال فإنه قوة خارجية أتت من مكان بعيدة، وليس له علاقة وجدانية، أو هوياتية بالمكان الذي يستعمره. هو يعمل جهده لإخضاع السكان الأصليين، ولكن الكُلف التي يتحملها غير مفتوحة. بمعنى آخر المعركة بالنسبة إلى المحتل هي معركة أرباح وخسائر، فمتى ما وجد أن كلف الاحتلال أعلى بكثير من كلف المواجهة مع الشعب المحتل فالطريق أمامه مفتوح للانسحاب، والعودة إلى موطنه الأصلي.

ومن هنا، فإن نصر شعوب العالم الثالث أمام قوى الاحتلال الغاشمة، هو بالدرجة الأولى سياسي، وليس عسكرياً. وهذا الاستنتاج يصدق على ما حدث في الحرب التي دارت في الهند الصينية، في لاوس وكمبوديا، كما يصدق على حرب التحرير التي خاضها اليمن الجنوبي ضد الاحتلال البريطاني.

والنتيجة التي نصل إليها، هي أن شعوب العالم الثالث التي تواجه الاحتلال الأجنبي، لا ترى من سبيل لكسر قيودها سوى مواصلة الكفاح لطرد المحتل الغاشم، مهما كلفها ذلك من تضحيات جسام. في حين أن المحتل يوازن بين مكتسباته والكلف التي يدفعها من تعزيز احتلاله، ومتى ما وجد أن الكلف عالية ولا تستحق استمرار المغامرة، انسحب من الميدان. والخلاصة، أن معنى النصر والهزيمة، في حالة حروب التحرير ليس محكوماً بتوازنات القوى العسكرية فقط، بل هو محكوم بعناصر أخرى لا تقل أهمية، تشي بأن النصر، في تلك الثورات ليس عسكرياً، بل سياسي بامتياز، وذلك ما يعطي لمعنى النصر والهزيمة أبعاداً جديدة، وآفاقاً أخرى.