آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 1:36 م

قراءة في كتاب مشكلة الحضارات

جهات الإخبارية الدكتور محمد تهامي دكير

- الكتاب: مشكلة الحضارات.. قراءة تحليلية ونقدية لنظريات معاصرة.
- المؤلف: زكي الميلاد.
- الناشر: مركز نهوض للدراسات والبحوث - الكويت.
- سنة النشر: الطبعة الأولى - 2022 م.
- عدد الصفحات: 287 من القطع الكبير.

مدخل

الحديث عن الحضارات هو حديث عن تاريخ الإنسان، وعن تطوُّر الاجتماع الإنساني عبر التاريخ، عن أسباب ظهور التجمُّعات البشرية الكبرى، وكيف أصبحت قوة مدنيَّة وعسكرية، وما توصَّلت إليه من تطوُّر في المعارف والعلوم والصناعات، وأساليب العيش والعمران، وكذلك عوامل انحلالها وانحطاطها.

وعبر التاريخ الإنساني، ظهرت حضارات كبرى، منها ما اندثر واضمحل، ومنها ما يُصارع من أجل البقاء، أو في طريق الأفول، وهناك حضارات حيَّة، تعيش في طور القوة والفاعلية والإنتاج والهيمنة على باقي الحضارات.

وقد ظهرت مجموعة من النظريات العلمية في مجال التأريخ لهذه الحضارات، حاولت دراستها والكشف عن أسباب نشوئها وظهورها، وعوامل انحطاطها وأفولها، وعناصر قوَّتها وضعفها، وتحديد ما تميَّزت به كل حضارة من خصائص ومميِّزات، وما قدَّمته للبشرية من مساهمات في مجالات التمدُّن والعمران، ومجالات الفكر والدين والتشريع وسائر العلوم والفنون والحرف والصناعات... إلخ.

كما رصدت هذه الدراسات التاريخية - الحضارية، طبيعة العلاقات التي ربطت بين هذه الحضارات، من حيث السِّلْم والحرب، والعلاقات السياسية والاقتصادية، ومدى التواصل والتثاقف بينها.

من هذه النظريات من نال حظه من الشهرة والاهتمام، ولا يزال محل بحث ونقاش وجدال في الأوساط الفكرية والأكاديمية المختصة، ومنها ما لفَّه النسيان وضاع في غياهب التراث الإنساني. وقد تميَّز القرن العشرين في أوروبا - على وجه الخصوص - بظهور عدد من النظريات في هذا المجال، نظريات تناولت موضوع مشكلة الحضارات، وقدَّمت رؤى وتفسيرات وتحليلات، بمنهجيات ومقاربات متعدِّدة تعدُّد المشارب الفكرية والعلمية لأصحابها، وقد كان لها دور مهم في توجيه وتطوير البحث في مجال علم الحضارة، والعلوم التاريخية بشكل عام، لارتباطها الوثيق بعلم التاريخ.

وهذه النظريات معظمها لا يزال يشغل الوسط الفكري والأكاديمي، سواء في أوروبا والعالم الغربي، أو في معظم العالم، والسبب يعود للرؤى النقدية القاسية التي احتضنتها بعض هذه النظريات تجاه الحضارة الغربية، والنظرة التشاؤمية لمستقبل هذه الحضارة، خصوصًا وأن هذه النظريات وُلدت من رحم الحضارة الغربية نفسها، ونشأت وتبلورت في الأوساط الجامعية والأكاديمية الغربية، التي لا يشك أحد في خلفيات أصحابها الفكرية والقيمية الغربية، وولائهم الحضاري للغرب وجذوره الحضارية!

من هنا تبرز أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، والموسوم بعنوان: «مشكلة الحضارات.. قراءة تحليلية ونقدية لنظريات معاصرة» للأستاذ زكي الميلاد، والذي اهتمَّ ولا يزال بموضوع الحضارة ومشكلاتها، وتتبَّع ورصد كل ما يتعلَّق بهذا المجال المعرفي المهم والحسَّاس، وهذا ما ظهر جليًّا في كتابه، حيث تمكَّن من رصد خمس نظريات معاصرة، تناولت مشكلة الحضارات، وتمكَّن من خلال منهجية علمية من الإحاطة بها، إحاطة يمكن وصفها بأنها تكفي قارئًا مقتصدًا هدفه التثقيف الذاتي، والمعرفة العامة بهذه النظريات؛ لأنها تعرض له الملامح العامة لكل نظرية، وتختصر له أهم الخطوط العريضة لها، وما قيل عنها نقدًا وتقويمًا، ما يُمكِّنه من الوصول إلى بعض الاستنتاجات السريعة والمقارنات الخاطفة.

لكنها تفتح - أمام القارئ المجتهد والمختص، أو أيِّ شخص لديه فضول معرفي كبير - آفاقًا واسعة للتساؤل والبحث، ورغبة جامحة للتوسُّع والزيادة؛ لأنها تجعله في خضم السِّجال الدائر حول هذه النظريات، وما تُقدِّمه من تفسيرات مثيرة لنشوء الحضارات وعوامل انحطاطها وأفولها. كما تضعه في موقف المتسائل عن موقفها التشاؤمي من مستقبل الحضارة الغربية المعاصرة!

لقد تمكَّن الكاتب - كما قلنا - من تسليط الضوء على خمس نظريات حضارية، أربع منها لمفكِّرين ومؤرِّخين غربيين «من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية»، أي نظريات تنتمي إلى المجال الغربي، وخامسة تنتمي لمجال حضاري مغاير، وهو العالم العربي - الإسلامي. والجامع بينها أنها تنتمي جميعها على المستوى الزمني إلى القرن العشرين، وهذا له دلالاته المعرفية، التي أشار إليها الكاتب في ثنايا عرضه لهذه النظريات؛ لأن مشكلة الحضارة الغربية وإن كانت قد بدأت ملامحها أو الشعور بها مع نهاية القرن الثامن عشر، كما ظهر ذلك في الكتابات الفلسفية الأوروبية، إلَّا أن تبلور هذه المشكلة الحضارية وظهورها أكثر فأكثر، جاء بُعيد الحرب العالمية الأولى، حيث كان للدمار الهائل، وأعداد الضحايا والبؤس الذي حلّ بالشعوب الأوروبية، الأثر الكبير على العقل الغربي، جعل النُّخب الفكرية والفلسفية تتوقَّف قليلًا لإعادة النظر في هذه الاندفاعة الحضارية الهائلة التي حقَّقتها الحضارة الغربية خلال القرون الثلاثة الماضية، والتي انتهت الآن إلى حرب مدمِّرة وكارثية، ناهيك عن مآسي الاستعمار خارج أوروبا، والتي لم تُعرها هذه النُّخب الأهمية المطلوبة.

أما النظريات الحضارية التي عرضها الكاتب، وتناولها بالتحليل والنقد والتقويم فهي: نظريات: المفكِّر والطبيب الألماني ألبرت أشفيتسر «1875 - 1965»، والمفكِّر الألماني أزوالد شبنجلر «1880 - 1936 م»، والمؤرِّخ البريطاني أرلوند توينبي «1889 - 1975 م»، والمفكِّر السياسي الأمريكي صمويل هنتنغتون «1927 - 2008 م»، والمفكِّر الجزائري مالك بن نبي «1905 - 1973 م».

وقد عرض الكاتب هذه النظريات تحت عناوين، يُمكن اعتبارها عناوين مفتاحية أو تُشير إلى ما توصَّلت إليه هذه النظرية، أو ما اشتهرت به، هذه العناوين هي: «الحضارة والأخلاق»، «الحضارة والمدنيَّة»، «الحضارة والتاريخ»، «الحضارة والسياسة»، «الحضارة والدين».

كما اعتمد الكاتب منهجية تجمع بين التوصيف والعرض مع التحليل والنقد، وهي منهجية معتمدة في النقد الأدبي أو منهجية تحليل النصوص الأدبية، وخصوصًا لجهة التركيز أو الإشارة - في بداية كل عرض وتحليل ونقد لنظرية - على الحديث عن صاحب النظرية وخلفياته الفكرية والعلمية، لما لهذه الخلفية من مدخلية في الكشف عن تأثير العوامل الذاتية في النص وتوجُّهاته، وهذا الأسلوب له إيجابياته في تحليل النصوص الأدبية؛ لأنه يقدم للقارئ والناقد، معطيات ذاتية، تتعلَّق بالكاتب أو صاحب النص، ما يساعد على فهم أكثر لمحتوى النص، والخلفيات الذاتية المؤثِّرة والموجِّهة له.

وبعد عرض الملامح العامَّة والخطوط العريضة لكل نظرية، نجد الكاتب الميلاد، يضع كل نظرية في ميزان مزدوج للنقد والملاحظات، ما قيل عنها إيجابًا أو سلبًا في بيئتها الخاصة أو المحيط العالمي، ثُمَّ يأتي دور الملاحظات الخاصة للكاتب نفسه. الأمر الذي يكشف للقارئ لأول وهلة، مدى تأثير هذا النظرية على المستويين المحلي والعالمي، والاهتمام الذي نالته والتأثير الذي تركته على الأوساط الفكرية والأكاديمية عبر العالم، وإن كان ذلك، قد يُدخل - غير المختص - في خضم سجال معرفي مثير للبلبلة الفكرية والذهنية.

الحضارة والأخلاق «ألبرت أشفيتسر»

في عرضه لهذه النظرية، يمكن من خلال العناوين الكبرى التي وضعها الكاتب، تلمس اتِّجاهات النظرية وما توصَّلت إليه، وهذه العناوين هي: أزمة الحضارة الغربية، الحضارة والتصوُّر الأخلاقي، الحضارة والنظرة الكونية.

فما توصَّل إليه أشفيتسر هو أن الحضارة الغربية في أزمة عميقة؛ لأنها انحرفت عن مجرى الحضارة، فهي تعيش خليطًا من الحضارة والبربرية، وقد غابت فيها القدرة على التفكير الفلسفي والحر، كما أن هناك خللًا في التوازن بين التقدُّم المادي وضمور ميدان الروح، وانحدار الأفكار الأخلاقية «ص 34».

وفي الوقت الذي اكتشف فيه أشفيتسر أن «الحضارة في جوهرها أخلاقية..» وأن التقدُّم المادي زاد من حِدَّة المشاكل الاجتماعية، وتوسُّع التجارة أدَّى إلى الحرب، والمخترعات أعطت الإنسان القدرة على التدمير أكثر.. كل ذلك في ظل غياب النظرة الكونية، ومن ثَمَّ فهذه العوامل السلبية جعلت الحضارة الغربية - في نظره - على حافَّة الانهيار. كما أنها بدأت تفقد تدريجيًّا طابعها الأخلاقي.. «ص 25».

ولإيقاف عقارب هذا الانهيار وللحيلولة دون تحقُّقه، يرى أشفيتسر أنه «لا بد من إعادة بناء الحضارة على أسس جديدة، تجمع بين التقدُّم المادي والروحي معًا، والجمع بين الإيجابية في العمل والأخلاق، في إطار نظرية كونية أخلاقية..».

هذه باختصار شديد أهم الملامح العامَّة لهذه النظرية كما قدَّمها وعرضها الكاتب، وقد وجَّه لها نقدًا عميقًا تحت عنوان: «ملاحظات ونقد»، حيث انتقد إسهاب أشفيستر في الحديث عن الأفكار والنظريات الأخلاقية الأوروبية، بشكل ظهر كتابه - الذي عرض فيه نظريته عن الحضارة - كما لو أنه كتاب عن الأخلاق وفلسفة الأخلاق، وليس عن الحضارة وفلسفة الحضارة.. «ص 42».

كما لاحظ الميلاد - أيضًا - إغفال أشفيتسر التاريخ اللاأخلاقي لأوروبا وتوحُّشها في الفترة الاستعمارية، وكذلك غياب الوقائع والأحداث في حديثه عن غياب الأخلاق الإنسانية. بالإضافة إلى إهماله للحضارة الإسلامية، وعدم تعرُّضه لتجربتها في مجال التنظير الأخلاقي، مع حديثه عن باقي الحضارات وتراثها في هذا المجال.

الحضارة والمدنية «أزوالد شبنجلر»

من خلال المنهجية نفسها التي اتَّبعها الكاتب في عرضه وتحليله لنظرية ألبرت أشفيتسر، تناول نظرية المفكِّر الألماني أزوالد شبنجلر، حيث سلَّط الضوء على نظريته في الحضارة وعلاقتها بالمدنية، من خلال الحديث عن: تدهور الغرب، وطبيعة الحضارات وبنيتها، ونقد التقسيم الثلاثي للتاريخ.

وممَّا جاء في عرضه وتحليله لهذه العناوين: تقوم نظرية شبنجلر على وجود علاقة بين الحضارة والمدنية، فكل مدنيَّة تكون مسبوقة بحضارة، والحضارة تنتهي في آخر المطاف إلى مدنيَّة، ولكل حضارة مدنيَّتها الخاصَّة. وحسب شبنجر فإن «كل حضارة تُناضل كي تُحقِّق ذاتها، وعندما تبلغ هذا الهدف وتُحقِّق ذاتها، وتكتمل الفكرة وكامل محتوى إمكاناتها الباطنية، وتنجز وتصبح واقعية في ظاهرها، عندئدٍ تتصلّب فجأة وتفسد، وتتسمّم وتجمد دماؤها، وتخور قواها، فتُمسي مدنية..» «ص 66». ومن ثَمَّ فعلاقة الحضارة بالمدنيَّة تتم عبر ثلاث مراحل: مرحلة التحرُّر من الحضارة، مرحلة نشوء شكل أصيل للمدنيَّة، المرحلة الثالثة: مرحلة التيبُّس والتصلُّب النهائيين للمدنيَّة.

وانطلاقًا من هذا التصوُّر للعلاقة بين الحضارة والمدنيَّة، توصَّل شبنجلر إلى أن الحضارة الغربية «قد وصلت إلى مرحلة التحقُّق والاكتمال»، أي انتقلت من وضعية الحضارة إلى وضعية المدنيَّة، ومن ثَمَّ فهي في طور التدهور والانحطاط والأفول، وهذا مصير حتمي، على غرار باقي الحضارات المندثرة؛ لأن الحضارة تمرُّ بالمراحل ذاتها التي يمرُّ بها الإنسان، فلكل حضارة طفولتها وشبابها ورجولتها وشيخوختها، ولكل مرحلة من المراحل مراهقتها ونضجها وانحطاطها، وفصولها الأربعة. «ص 75».

وقد وُجّهت لهذه النظرية انتقادات عميقة وعنيفة، غربية ومن الوسط العربي، نقد كشف عن التشاؤمية التاريخية أو «السخط الثقافي» الذي تورَّطت فيه هذه النظرية، وكذلك فكرة جبرية تعاقب أطوار الحضارات واستنادها الحتمي إلى قوانين الطبيعة، ورفض القول بالانفصال التام بين الحضارات. إلى جانب تأكيد آخرين بأن نظرية شبنجلر تُذكِّر بنظرية ابن خلدون، الذي يعتبر الحضارة غاية العمران، ومبعث الفساد والانهيار... إلخ.

وقد أضاف الكاتب الميلاد إلى هذه الانتقادات ملاحظاته الخاصة، حيث اعترض على موقف شبنجلر من الحضارة العربية وربطها بالديانة المجوسية، وعدم الالتفات إلى الإسلام، وما يتميَّز به من خصوصيات، كان لها تأثير مهم في نشوء الحضارة العربية - الإسلامية.

الحضارة والتاريخ «أرنولد توينبي»

قد تكون هذه النظرية أكثر شهرة من سابقاتها لعدَّة اعتبارات، منها أن صاحبها مؤرِّخ كبير، وقد اشتهر بكتابه: «دراسة التاريخ» على نطاق عالمي، وفيه بحث عن مشكلة الحضارات ظهورها وانهيارها، مقارنًا بين الحضارات والمجتمعات التي بلغت عنده 21 مجتمعًا. وفي إطار المنهج المقارن بين هذه الحضارة استطاع توينبي أن يُكوِّن معرفة بها، كيف ظهرت ونمت؟ وكيف انهارت وأفل نجمها؟ ولماذا بقيت بعض الحضارات، فيما اندثرت أخرى؟

ومن خلال ذلك رفض توينبي الادِّعاء القائل بوحدة الحضارة، كما رفض القول بنظريتي الجنس أو البيئة الجغرافية في بدء الحضارات، أو كعامل يُفسِّر بدءها، مؤكِّدًا نظريته التي اشتهر بها، نظرية «التحدِّي والاستجابة»، فهذه النظرية تعدُّ - بالنسبة له - الأوفر حظًّا لتفسير انبعاث الحضارات، وهذا التحدِّي قد يكون ضعيفًا أو متوسِّطًا أو قويًّا. أما بخصوص علاقة الحضارة بالتحدِّي، فهو كذلك ينقسم إلى ثلاثة أنواع: متطوِّرة، عقيمة، متعطِّلة.

أما بالنسبة للتحديات فقد تحدَّث توينبي عن التحدِّي الطبيعي، مُتطرِّقا إلى الجفاف، ومستنقعات غابات الأودية، وغزارة الغابات المدارية، وتحدِّي البحر... إلخ. هذه التحديات كانت - في نظره - وراء انبثاق حضارات في التاريخ مثل: الحضارة المصرية، والحضارة الصينية والأنديانية في أمريكا الجنوبية. وهناك حضارات لها علاقة بالتحدّي البشري، مثل: الحضارة الهندية وحضارة الشرق الأقصى والحضارة العربية والحضارة المسيحية والإيرانية. وقد تبيَّن لتوينبي أنه «كلما عظم التحدِّي اشتدَّ الحافز». وأن الاستجابة الناجحة للتحديات تُؤدِّي إلى ارتقاء الحضارة، كما يقترن فشلها وموتها بضعف هذه الاستجابة.

وبخصوص انهيار الحضارات وموتها، فقد تحدَّث توينبي عن ثلاثة عوامل رئيسة هي: ضعف الطاقة الإبداعية في الأقلية، وتخلِّي الأكثرية عن محاكاة الأقلية، والتفكُّك والانقسام وفقدان الوحدة الاجتماعية. «ص 127».

أما بالنسبة لمصير الحضارة الغربية فقد أشار توينبي إلى عوامل كانت سببًا في انهيار حضارات سابقة، والحضارة الغربية في طريقها لتمثُّل هذه العوامل، والأسباب تكمن في: تأليه الدولة الإقليمية وعلاقتها بالحروب، وأن هذه الحروب كانت سببًا في دمار عدد من الحضارات، لكن - في نظره - الحضارة الغربية لا تزال بعيدة عن الانهيار؛ لأن قبس الطاقة المبدعة الإلهي ما يزال حيًّا فيها.. «ص 133».

وقد تعرَّضت نظرية توينبي - على غرار سابقاتها من النظريات - للنقد والتقويم، وكثرت الملاحظات التي استعرضها الكاتب الميلاد، انسجامًا مع منهجه في تخصيص قسم من الدراسة لعرض السِّجال الفكري والرُّدود التي أثارتها هذه النظرية، بين مُنتقد ومُؤيِّد، وبين مُشكِّك في بعض الآراء والاستنتاجات والرافض لها، بالإضافة إلى الملاحظات النقدية للكاتب نفسه.

أما أهم هذه الانتقادات فتعلقت بالتشكيك في «قانون التحدِّي والاستجابة»، واعتباره من الحتمية العلمية في التاريخ، والتقليل من شأن العامل البيئي والجغرافي في نشوء الحضارات. كذلك انتُقد تقسيمه الحضارات إلى: دُنيا وعُليا ومتوقِّفة. والانتقائية في التعرُّض للحوادث التاريخية، واختلاط فكرة الدولة بالحضارة، ولذلك ظهر - كما يقول الميلاد - في حديثة عن انهيار الحضارات وكأنه يتحدَّث عن انهيار الدول.. «ص 145». وغياب عالم الأفكار عند الحديث عن التحدِّي والاستجابة في قيام الحضارات وانهيارها، وكذلك غياب الحديث عن الظاهرة الاستعمارية. وغيرها من الانتقادات التي لم تتمكَّن من التقليل من شأن هذه النظرية وتأثيرها وحضورها المستمر في الكتابات المتعلِّقة بالحضارات ومشكلاتها.

الحضارة والسياسة «صمويل هنتنغتون»

هذه هي النظرية الرابعة والأخيرة التي ظهرت في المجال الغربي، وهي نظرية أكثر التصاقًا بالشأن السياسي العالمي، وقد انطلقت من مقالة وفرضية للكاتب والمُحلِّل السياسي الأمريكي صمويل هنتنغتون، لتتحوَّل إلى كتاب ضخم ونظرية، هاجسها الرئيس هو محاولة تفسير الوضع العالمي، والتنبُّؤ بمستقبل العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، والانتصار المُدَّعى للنظام الليبرالي.

تنطلق هذه النظرية أو الأطروحة التي أطلق عليها صاحبها «النظرية الحضارية»، من الادِّعاء بأن الهوية الحضارية «مكوِّناتها وخصوصياتها الثقافية» هي العامل الحاسم الذي سيتحكَّم في العلاقات السياسية الدولية في المستقبل، ومن ثَمَّ فمصدر الصراعات بعد الحرب الباردة سيكون العامل الثقافي، وأن الصدامات الكبرى الكونية ستكون بين مجموعات حضارية مختلفة. وعليه، فالنزاعات في العالم مستقبلًا ستكون ذات طابع حضاري، أي صدام بين الحضارات، حيث ستُصبح الأهمية للعامل الثقافي بدل النظام السياسي والاقتصادي، وهنا سيلعب الدين دورًا مهمًّا؛ لأنه من أهم المقوِّمات الموضوعية التي تُحدِّد الحضارة.

وقد استند هنتنغتون لدعم نظريته على ظواهر، مثل: ظاهرة مقاومة الاندماج لدى بعض المجتمعات والثقافات، والحرص على الذات الثقافية، وتأثُّر الدول القومية بالعوامل الثقافية والحضارية.

لقد أثارت هذه النظرية سجالًا عالميًّا كبيرًا أكثر من سابقاتها، وقد رصد الكاتب الميلاد هذا السِّجال بدِقَّة وأحاط به في إطار نقده لهذه النظرية، التي تعرَّضت لانتقادات كثيرة من داخل العالم الغربي ومن خارجه، وخصوصًا من العالم الإسلامي، لما ورد فيها من حديث عن صراع محتمل بين الحضارتين الغربية والإسلامية مستقبلًا. والنظرة التشاؤمية للمستقبل، فالعالم حسب هذه النظرية مُقبل على صراع حضارات وحروب، والعالم سيتمايز ثقافيًّا أكثر فأكثر، حيث ستنغلق الدول والشعوب على نفسها، وتعيش حالة التصادم.

لذا فقد طُرحت على هذه النظرية الكثير من الأسئلة، عن ادِّعاء حتمية الصراع، وعن المسؤول عن تفجير الصراع بين الحضارات، وإذا ما وجدت أيَّة حضارة نفسها في حالة المعتدى عليها، أو محاولة القضاء على خصوصياتها الثقافية من خلال العولمة الثقافية أو الاستعمار الثقافي، ألا يعتبر الدفاع عن النفس مبررًا ومشروعًا!

كما أثار عدد من المفكِّرين والمحلِّلين السياسيين بعض الشكوك والارتياب في الخلفيات السياسية لهذه النظرية، خصوصًا وأن صاحبها مُقرَّب من مراكز صنع القرار السياسي الأمريكي، فهل تُقدِّم هذه النظرية مُبرِّرًا جديدًا للاستعمار الغربي والأمريكي على وجه الخصوص، وتُشرعن له الهيمنة على شعوب ودول فقيرة، بحجَّة صراع الحضارات!

كما وجّه الكاتب نقدًا عميقًا لهذه النظرية ولصاحبها، منها: إغفاله الإشارة إلى من سبقه إلى القول بصدام الحضارات، مثل: توينبي وبرنارد لويس والمفكِّر المغربي المهدي المنجرة، وإغفاله - أيضًا - الإشارة إلى نظرية حوار الحضارات، مع أنها نظرية أكثر تفاؤلًا ويمكن أن تكون بديلًا لنظرية الصراع والصدام، والدفع باتجاه الحوار في العلاقات السياسية بين الدول والأديان والثقافات أفضل لمستقبل البشرية وللسِّلْم والأمن العالمي من ادِّعاء حتمية الصراع. إلَّا إذا كان الغرب يسعى لإيجاد عدو جديد يحاربه ويتصارع معه، بدل الاتحاد السوفيتي! كذلك رفض الميلاد وبشدَّة موقف هنتنغتون الغريب من الإسلام، واتِّهامه بأنه دين دموي وعنيف، والتركيز على تاريخ الصراع بين الإسلام والمسيحية. «ص 228».

الحضارة والدين «مالك بن نبي»

هذه هي النظرية الخامسة التي اهتمَّت بمشكلة الحضارات، وهي نظرية ظهرت ونشأت في مجال معرفي وثقافي وحضاري مغاير، لأن صاحبها مالك بن نبي مسلم جزائري، حمل هموم أمته المتخلِّفة حضاريًّا والمُستعمرة غربيًّا، وانطلق من حضارة تترنَّح وتُصارع الموت، وقد فقدت فاعليتها وقوَّتها، وكان همّه هو كيف «تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة». «ص 234».

وسبب اهتمام ابن نبي بالحضارة يعود لاعتقاده بأن جميع المشكلات لها ارتباط بمشكلة الحضارة، فهي أساس المشكلات - في نظره - وعنها تتفرَّع سائر المشكلات الجزئية. ولذلك اعتبر موضوع الحضارة «وحدة أساسية في منهجه لدراسة وتحليل قضايا ومشكلات العالم الإسلامي..». «ص 237».

وانسجامًا مع منهجه في العرض والتحليل ثُمَّ النقد والتقويم وإبداء الملاحظات، فقد عرض الكاتب الميلاد الخطوط العريضة لنظرية ابن نبي كذلك، حيث تحدَّث في البداية عن مُحدِّدات نظريته، مُتطرِّقًا إلى أربع قضايا هي: مشكلة الحضارة، عناصر وشروط الحضارة، مركب الحضارة، ودورة الحضارة من الميلاد إلى الأفول.

بالنسبة لمشكلة الحضارة، يرى ابن نبي أن العالم الإسلامي في محاولاته للخروج من حالة التخلُّف قد وجد نفسه منخرطًا في جمع وتكديس منتجات وأشياء الحضارة الغربية فقط، وبقي بعيدًا عن روح الحضارة التي تقف وراء إنتاج وإبداع هذه المنتجات والأشياء. أما بالنسبة لعناصر الحضارة، فإذا أراد العالم الإسلامي - في نظره - تركيب حضارة وإنجازها، فالمطلوب وجود ثلاثة عناصر أو عوامل أساسية هي: الإنسان والتراب والوقت.

وعلى أساس هذه المعادلة تحدَّدت - في نظر ابن نبي - مشكلة الحضارة، وقد فكَّكها تحليلًا إلى ثلاثة مشكلات جزئية هي: مشكلة الإنسان وتحديد الشروط لانسجامه مع سير التاريخ، ومشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية، ومشكلة الوقت وبثّ معناه في روح المجتمع ونفسية الفرد. «ص 245».

والخلاصة، فبناء الحضارة لا يتحقَّق بشراء منتجات حضارة وتكديس منتجاتها، لأنها ستكون فارغة من دون روح أو ذوق أو ثقافة، وإنما من خلال وجود ثلاثة عناصر أو عوامل هي: الإنسان والتراب والوقت، وحل المشكلات المرتبطة بها، ووجود فكرة دينية تُؤلِّف بين هذه العوامل، لِتُركِّب منها كتلة تُسمَّى في التاريخ حضارة.

وقد تحدَّث الميلاد بالتفصيل عن هذه العناصر، وكشف كيف يُؤثِّر الإنسان في تركيب التاريخ من خلال توجيه الثقافة والعمل ورأس المال ووضع الأرض والاستفادة الجيدة من الثروة. كما تحدَّث عن مُركَّب الحضارة الذي سيُؤثِّر في مزج هذه العناصر والمُتمثِّل في الفكرة أو العقيدة الدينية، التي واكبت تركيب الحضارة خلال التاريخ، حيث أكَّد ابن نبي أن الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلَّا في صورة وحي يهبط من السماء يكون للناس شرعةً ومنهاجًا.

أما بالنسبة لدورة الحضارة فابن نبي يعتقد أن الحضارة تقع بين حدَّين اثنين وهما الميلاد والأفول، طور النهوض الصاعد وطور الأفول، وبينهما يوجد اكتمال معيَّن هو طور انتشار الحضارة وتوسُّعها.. «ص 255». لأن الحضارة - في نظره - تبدأ عندما تدخل التاريخ فكرة دينية معيَّنة، وتنتهي حينما يفقد العقل نهائيًّا الهيمنة التي كانت له على الغرائز المكبوتة.

وعلى غرار باقي النظريات، فقد أخذت نظرية ابن نبي نصيبها - أيضًا - من النقد والتقويم وخصوصًا في العالمين العربي والإسلامي، وإن كانت اتِّجاهات النقد أكثر موضوعية وإيجابية، فالملاحظ أن أغلب الملاحظات النقدية ركَّزت على معادلة ابن نبي «الإنسان + التراب + الوقت = حضارة» فقد شكَّك البعض في هذه المعادلة وقدرتها على إنتاج حضارة في صالح الإنسان. وكذلك الإغراق في التجريد النظري في تحليل هذه العناصر، ووجود حالة من عدم التناسب وعدم التوازن الكمي والكيفي في الحديث عن هذه العناصر المكونة للحضارة. وغيرها من الملاحظات المتعدِّدة.

وأخيرًا..

إن عرض خمس نظريات وجمعها في كتاب واحد، ورصد أغلب ما قيل عنها من أقوال، سلبًا أو إيجابًا، مدحًا أو ذمًّا، بالإضافة إلى التحليل والملاحظات النقدية التي قدَّمها الكاتب في نهاية كل دراسة لنظرية، كل ذلك يدخل في إطار العمل الموسوعي، المُضني والشَّاق بالنسبة لأيِّ كاتب ومُؤلِّف، الذي يُمكِّن القارئ من الاطِّلاع على نظريات كثيرة في كتاب واحد.

لكن رصد وتتبُّع كل الأقوال والملاحظات النقدية المتعلِّقة بكل نظرية، وإعطائها حيّزًا مهمًّا في جميع الدراسات، قد يكون على حساب المزيد من التعرُّف إلى النظرية نفسها، وبسط القول فيها عرضًا وتحليلًا، كما يحشر القارئ في معمعة سجال فكري متشعِّب الأبعاد، قد يُثير لديه بعض الغبش والضبابية تجاه أيَّة نظرية، خصوصًا مع تعارض واختلاف اتِّجاهات النقد والتقويم، ويحجب عنه القدرة على التأمُّل الشخصي في كل نظرية، والتقويم الذاتي لها، كما تصْعُب لديه القدرة على المقارنة بين هذه النظريات، وتلمُّس القواسم المشتركة بينها، وأوجه الاختلاف، وهذه مهمَّة كان بإمكان الكاتب القيام بها في نهاية العرض والتحليل لجميع هذه النظريات، فلا شك أن ما يُسفر عنه المنهج المقارن من نتائج، سيكون محل تأمُّل واعتبار.

كاتب وباحث من المغرب