آخر تحديث: 6 / 12 / 2024م - 2:36 م

هكذا رأيت الكساء

أحمد رضا الزيلعي

تمهيد

النصوص الشريفة عبارة عن محيطات من الأسرار تنطوي على عمق وجواهر ودرر وفي بعض الحالات سكون الجو غائم وممطر وبعض الأحيان تكون العواصف عاتية. لذلك لخوض غمارها لابد من ”قبطان“ خبير يعرف تصنيفها ومواضع توظيفها وما إلى ذلك مما يفعله رجال الحوزة أعزهم الله في التعاطي معها في كل مجالاتها العقائدية والكلامية والفقهية والتفسيرية والأخلاقية والمعرفية، وبحوث الخارج هي ميدان أساطين التعامل مع هذه النصوص الشريفة.

من تلك النصوص، النصوص التي فاضت لإشباع الجانب الروحي للإنسان بعطاء عظيم لا مثيل له في تراث أي مدرسة دينية أو مذهب ديني آخر. وحتى هذا الصنف من الروايات يحتاج إلى خبير ليرشد المكلف إلى النصوص الأنسب، خصوصاً إذا كان البرنامج سيكون لعموم المؤمنين.

من هؤلاء الخبراء المربي الأجل سماحة الشيخ محمد كاظم الجشي دام عطاؤه، حيث نُشر له قبل سنوات كتيب ”الأربعون“ وهو عبارة عن وصايا للشباب المؤمن ليعمل بها خلال أيامه[1] . من بين تلك الوصايا المستقاة من النصوص الشريفة وصيته بقراءة ”حديث الكساء“ كل يوم، وهي وصية ملفتة وجديرة بالتأمل لما فيها من تماس يومي مباشر مع مضامين هذا الحديث الشريف.

هكذا رأيت الكساء

انطلاقاً من ذلك كفرد من عامة المؤمنين أسجل نقاطاً رأيتها من باب التأمل والتفكر في هذا النص الشريف:

1. الحديث مدرسة أخلاقية في أدب التحية والسلوك من غاية الكون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

- لم تزد السيدة الزهراء سلام الله عليها في ردها على تحية أبيها النبي ﷺ ”فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا فاطِمَةُ، فَقُلتُ: عَلَيكَ السَّلامُ،“ مع أن رد السلام ينبغي أن يكون بأحسن ”مثلاً بقول وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أبه“ إلا أنها في محضر التأدب في محضر النبي والوالد الأعظم أعطت الدرس الأعظم ولولا ذلك لتبادر لذهن الإنسان أن يحيي بالأحسن لإظهار عظمته، ولكن الأدب هنا أولى وأليق في محضر الأعظم أو الأفضل.

- الترحيب بالأبناء بأجمل الردود ”فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا قُرَّةَ عَينِي وَثَمَرَةَ فُؤادِي،“ وكذلك رد النبي ﷺ ”فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي....“.

- احترام الزوج ونعته بأفضل ألقابه ”فَأقبَلَ عِندَ ذلِكَ أبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنِ أبِي طالِبٍ وَقالَ: السَّلامُ عَلَيكِ يا بِنتَ رَسُولِ اللهِ، فَقُلتُ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا أبا الحَسَنِ وَيا أمِيرَ المُؤمِنِينَ“.

- الأدب السامي في خطاب أمير المؤمنين بالاكتفاء بقوله ”السَّلامُ عَلَيكَ يا رَسُولَ اللهِ“ ولم يقل يا أخي حيث الأعلى مقاماً هو من يليق به أن يدني ويرفع من مقام المخاطب. وقوله سلام الله عليه ”فَقالَ: يا فاطِمَةُ إنِّي أشُمُّ عِندَكِ رائِحَةً طَيِّبَةً كَأنَّها رائِحَةُ أخِي وَابنِ عَمِّي رَسُولِ اللهِ“ ليست خطاباً مباشراً للنبي ﷺ، والله أعلم.

2. طلب الكساء ينبئ أن هناك ميزة لهذا الكساء وحرص السيدة وبعلها وبنيها على الدخول مع رسول الله ﷺ تحته مؤشر آخر لذلك ولعله مؤشر أنها حصلت قبل ذلك كما ينقل عن أحد العلماء. بالإضافة إلى ذلك، لعل للكساء تأثيراً تكوينياً بحيث انعكس ذلك على محيَّا النبي الأعظم ﷺ ”فَأتَيتُهُ بِالكِساءِ اليَمانِي فَغَطَّيتُهُ بِهِ وَصِرتُ أنظُرُ إلَيهِ وَإذا وَجهُهُ يَتَلألأُ كَأنَّهُ البَدرُ فِي لَيلَةِ تَمامِهِ وَكَمالِهِ“.

3. للنبي الأعظم ﷺ رائحة طيبة حباه الله تبارك وتعالى بها من بين البشر وهو ما مذكور في صفاته ﷺ أن عرقه يفوح طيباً أذفر ففي سنن النبي للعلامة السيد الطباطبائي رضوان الله عليه ”وفي الكافي: بإسناده عن سالم بن أبي حفصة عن أبي جعفر قال: كان في رسول الله ﷺ ثلاث خصال لم يكن في أحد غيره: لم يكن له فئ“ الظِّلُّ بعد الزوال ينبسط شَرْقًا ”، كان لا يمر في طريق فيمر بعد يومين أو ثلاثة إلا عرف أنه ﷺ قد مر فيه لطيب عرقه، وكان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له. ونقل رضوان الله عليه هذه الرواية أيضاً“ وفي مجموعة ورام: عن أنس بن مالك وعن سليم قال: دخل علينا رسول الله ﷺ فقعد فقال عندنا، فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسكب العرق فيها، فاستيقظ فقال ﷺ: يا أم سلمة ما هذا الذي تصنعين؟ فقالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب. فقال ﷺ: أصبت".

4. الحديث يعكس دقة في النقل من قبل الزهراء سلام الله عليها وفي العبارات التي قالها أصحاب الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومنها التالي:

- في العبارة التي خاطب بها الإمام الحسن النبي ﷺ ”السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدَّاهُ يا رَسُولَ اللهِ“ وجواب النبي ﷺ ”فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا صاحِبَ حَوضِي“. كذلك خطاب الحسين للنبي ﷺ ”السَّلامُ عَلَيكَ يا جَدّاهُ، السَّلامُ عَلَيكَ يا مَن اختارَهُ الله“ وجواب النبي ﷺ ”فَقالَ: وعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا شافِعَ أُمَّتِي“.

- وكذلك جواب النبي ﷺ لأمير المؤمنين والسيدة الزهراء عليهما السلام حيث ”قالَ: وعَلَيكَ السَّلامُ يا أخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي“، وحيث قال ”وَعَلَيكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بِضعَتِي“.

- استعمال الزهراء الكلمات الأنسب للتعبير عن المجيء والذهاب ”أقبل.. دنى.. أتيت.. هبط“ ويمكن التأمل في المفردات الأخرى لنفس المعنى.

- دقة السيدة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها وآلها الطاهرين في تقدير الوقت بين حدثٍ وحدث فعن مجيء الحسنين سلام الله عليهما قالت: ”فَمَا كَانَتْ إِلاَّ سَاعَةً وَإِذَا بِوَلَدِي..... قَدْ أَقْبَلَ“ وأما عن مجيء أمير المؤمنين قالت: ”فَأَقْبَلَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ“ ما يعكس أن مجيئه سلام الله عليه كان بعد دخول الحسين تحت الكساء بفاصل بسيط بدلالة استخدام ”ف“.

- تقديم النبي ﷺ ”الألم لألمهم والحزن لحزنهم على مسالمتهم“ لبيان خطورة ذلك كما هو واضح وصريح ”يُؤلِمُنِي ما يُؤلِمُهُم وَيَحزُنُنِي ما يَحزُنُهُم، أنا حَربٌ لِمَن حارَبَهُم وَسِلمٌ لِمَن سالَمَهُم وَعَدُوُّ لِمَن عاداهُم وَمُحِبٌّ لِمَن أحَبَّهُم“ وهو ما ينعكس في تقديم مقام التبري على مقام التولي من فروع الدين.

- عبارة الزهراء لجواب والدها ﷺ لسؤال أمير المؤمنين ”يا رَسُولَ اللهِ، أخبِرنِي ما لِجُلُوسِنا هذا تَحتَ الكِساءِ مِنَ الفَضلِ عِندَ اللهِ“ بقولها: ”فَقَالَ النَّبِيُّ“ صلّى الله عليه وآله ”...“ وهو منطلق من معنى مفردة نبي ”هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم“ بينما معنى رسول هو ”الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام حجة يستتبع مخالفته هلاكةً أو عذابا أو نحو ذلك“ ”تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي رضوان الله عليه“.

5. الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها تنقل مباشرة ما يجري في الملأ الأعلى، وهذا من أسمى مقامات بنت أبيها وزوجة ولي الله وأم الأئمة السيدة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وآلها الطاهرين.

6. العلة الغائية لخلق هذا الكون هم محمد وآل محمد صلواته وسلامه عليهم أجمعين حيث قال تبارك وتعالى ”يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلاّ فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ“ حيث أن ”العلة الفاعليّة“ الله تبارك وتعالى و”العلة الماديّة“ هي المادة التي تكون منها الكون بسمائه وأرضه وكواكبه ونجومه وفلكه وبحاره و”العلة الصوريّة“ وهي الشّكل والهيئة التي أبدعها الباري تبارك وتعالى فكان عليها هذا الكون العظيم. ”تقسيم العلل من شبكة المنير“.

7. يعكس عظمة مقام الزهراء هو جعلها محور التعريف عن أصحاب الكساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ”فَقالَ الأمِينُ جبرائِيلَ: يا رَبِّ وَمَن تَحتَ الكِساءِ، فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُم أهلُ بَيتِ النُّبُوَّةِ وَمَعدِنُ الرِّسالَةِ، هُم فاطِمَةُ وَأبُوها وَبَعلُها وَبَنُوها“.

8. الحديث حدد مقامات الخمسة الأشباح على لسان النبي ﷺ:

أ. الأخوة والوصية والخلافة واللواء أمير المؤمنين

”أخِي وَوَصِيِّي وَخَلِيفَتِي وَصاحِبَ لِوائِي“.

ب. البنت والبضعة هي الزهراء حيث أن معنى بِضْعَة منِّي: هو في قرابته كالجزء منّي.

”قالَ: وَعَلَيكِ السَّلامُ يا بِنتِي وَيا بِضعَتِي“

ت. صاحب حوض النبي ﷺ هو الإمام الحسن .

”فَقالَ: وَعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا صاحِبَ حَوضِي“.

ث. شافع أمة النبي ﷺ هو الإمام الحسين .

”فَقالَ: وعَلَيكَ السَّلامُ يا وَلَدِي وَيا شافِعَ أُمَّتِي“.

9. فيوضات ربانية تحف من يقرأ هذا الحديث الشريف مع ضمانة نبوية بقضاء الحوائج وكشف الهموم والغموم، مع توفر الشروط، وهذا ما ينقله الكثير من المؤمنين من بركات هذا الحديث الشريف. ولهذا لعله أوصى به سماحة المربي الأجل دامت فيوضه الروحانية والربانية.

الخلاصة:

1. النصوص الشريفة نصوص مقدسة صادرة عن الله عز وجل ورسله وأوصيائه لذا فمقامها سامي يحتاج إلى دراسة وتأني في الاستفادة منها، وهذا ما تكفل به رجال الحوزات أعزهم الله ومن سار على نهجهم.

2. مجال عامة المؤمنين التأمل والأنس بالنصوص الشريفة لا الخروج بنظريات وقواعد وما إلى ذلك لأن هذا دور المجتهدين من رجال الحوزة العلماء فضلاً عن أنه دور المراجع دام ظلهم الوارف.

3. التربية الروحية والأخلاقية لها رجالها الذين لهم الباع الطويل فيها وكذلك مشهود لهم بالتقوى والورع والأخلاق والفقاهة حيث خرجوا من رحم الحوزة، التي تهتدي بهدي محمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين حيث الطريق الحق والصراط المستقيم والنور الإلهي والشريعة السمحاء والرحمة الواسعة، أعزها الله وحماها.

4. التربية الروحية والأخلاقية محور أساسي في حياة المسلم، فيجب عليه أن يهتم بها مع اهتمامه بعقائده وفقهه. حيث أن بعد العلم الديني معراجنا هو الروح بتساميها وتألقها في ساحة القرب الإلهي بترك المعاصي وفعل الواجبات ”وأما المستحبات والمكروهات فالمسلمون يتفاوتون فيها، وكلٌ يغرف منها بمقدار إنائه والعمدة على الواجبات وترك المحرمات من خلال اتباع الرسالة العملية للمراجع الفقهاء“.

نفحة قرآنية

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ”سورة النحل - الآية 43“.

[1]  الوصايا - موقع النون التابع لسماحة المربي الأجل الشيخ محمد كاظم الجشي حفظه الله
http://www.alnoon.net/2023/02/wasaya2.html